فيما له صلة بالتحليل السياسي الاقتصادي الذي سقته إبان الأزمة … هنالك رأي وصلني من بعض الأحزاب والناشطين وبعض الإصلاحيين الإسلاميين يقر بصحة حديثي ولكنه يقول إن الحكومة موصوفة برداءة القرارات السياسية ولذلك (من باب التعامل بالمثل!) يجب عدم التوصل إلى أي تحليل يبرر لقراراتها الاقتصادية … بمعنى أن المطلوب هو حظرها وحرمانها لأنها (لا تستحق!) وليس لأن القرارات صحيحة أم خطأ؟! وهذا موقف سياسي تكتيكي متوقع ولكنني لا استطيع دمجه في تحليلي السياسي لأنه يعتمد على المساومة بالحقائق الموضوعية وفق رؤية محددة، والمساومة “فعل سياسي” وليس “تحليلاً سياسياً”.
أولا أكرر … وبغير صلة بالمزايدات الحزبية … الأحداث المؤلمة التي سقط فيها شهداء أبرياء أنقياء وآخرون من ممارسي العنف تجد من كل من له ضمير إنساني الإدانة الكاملة والواضحة والإقرار بأنها سببت وستسبب موجة من المشاعر الشعبية الساخطة، وهذه المشاعر … مساحة إنسانية من الواجب الوطني احترامها ولكنها بكل وضوح لا تصنع تحليلاً سياسياً واقتصادياً سليماً … أما إذا كان المجال هو “التعليق السياسي” وليس ” التحليل السياسي” فيمكن حينها الحديث بالطريقة التي ترضي المشاعر ولا ترضي غيرها … لأن “التعليق السياسي” مثل “التعليق الرياضي” يمتزج بالحماس وما يطلبه الجمهور!
ما قلته إبان القرارات والأحداث وأنا ثابت عليه الآن … أن سياسة التحرير الاقتصادي ليست “نزهة على الأقدام في فضاء مفتوح” ولا تحتمل المماطلة ولا المزاوجة بينها وبين الأنماط المناقضة لها، وحتى ولو حدثت هذه التناقضات في دول تحكمها ظروف غير ظروف السودان مثل قلة التعداد السكاني أو وفرة الريع النفطي أو الإسناد الأجنبي فهذه مقارنات خارج النص! ولكن هذا لا يعني أنني مع طريقة الحكومة في تطبيق هذه السياسة وفقر الإعلام السابق لها … بل الحكومة ذاتها يوجد فيها قيادات لا تتفهم هذه السياسة … أما القيادات الوسطى والصف الثاني فحدث ولا حرج ومنهم من داخل المؤتمر الوطني من كان يطالب بأن تفرض الحكومة ضرائب على الاتصالات والتعدين والسفر (مثلاً) لأنها محتاجة لشوية “قروش” وبمقدورها أن تفك “الزنقة” بحلول بديلة.
من حسنات الفيسبوك أنني التقي عبره مع الشباب الذين يرون إسقاط النظام عبر المظاهرات ويرون أن كل مبررات الحكومة في القرارات المؤخرة مرفوضة بشدة وأن القرار السليم كان الانصياع والتراجع عن القرارات أو “الرحيل”، ومن الإسلاميين الإصلاحيين من كان ينتظر حتى في اللحظات الأخيرة بيان التراجع من البشير …. ومنهم من كان يتمنى أن تصدر هذه القرارات من وزير المالية لينهض الشعب ضده ثم يطيح به البشير به وتزداد شعبيته على أنقاض وحطام وزارة المالية. كل هذا الحديث عاطفي وغير مؤسس على ذرة واقع … لأن سياسة التحرير الاقتصادي تشبه برامج الحاسوب التي تقوم بعملية التنزيل والتعريف تلقائياً (والمثل هنا كان مفهوماً لشباب الفيسبوك!) … هنالك أجهزة ما إن يتم توصيلها بالحاسوب إلا وتبدأ في العمليات الخاصة بها وغالباً ما تأتيك رسائل على شاكلة “هنالك برنامج لا يتواءم مع البرنامج الذي يتم تثبيته …. هل تريد إلغاء التثبيت أم تريد المواصلة وإلغاء البرنامج غير المتوائم … (نعم)؟ أو (لا)؟” في حالة النقر على (نعم) تستمر العملية ويتم إلغاء البرامج القديمة (ومنها دعم السلع) وفي حالة النقر على (لا) يتم إلغاء سياسة التحرير الاقتصادي وتعود البلاد للعام 1991! لو سقطت هذه الحكومة وجاءت “الجبهة الثورية” للحكم … لن تخرج عن هذا المسار … بل ربما تطبقه بقسوة أكثر … لو جاءت الأحزاب الوطنية المعتدلة … (أمة)، (اتحادي)، (شعبي) لن تغير هذا الواقع! لو جاء شباب الفيسبوك لن يغيروا هذا الواقع! ما أتوقعه بكل أمانة أننا أمام مشهد قاحل من أي عواطف ومن المتوقع تجدد الأحداث وسقوط خسائر أكبر ما لم ننخرط حكومة ومعارضة وشعباً وناشطين وكل القوى في تحليلات واقعية عملية … هذه هي الحقيقة … ومن المطلوب مواجهة الحقيقة وإيجاد الحلول لا الانسياق وراء المشاعر والعواطف وإن كانت مقدسة ومحترمة لأقصى حدود!
[/JUSTIFY][/SIZE]
نهاركم سعيد – مكي المغربي
صحيفة السوداني
