د. محمد الهادي الطيب: صعود الدولار وهبوطه وتناقض التصريحات.. أين الحقيقة؟

[JUSTIFY]لأسبوعين متتاليين شغلنا بحديث الدولار الذي ملأ فضاءاتنا وغشي مجالسنا كلها، من لدن الإعلام إلى رجال المال والأعمال إلى مسامرات المجالس وجلسات الانس، فكما ارتفع الدولار عاد وانخفض فجأة، لأسباب غير متفق عليها بين الخبراء، ومالبث أن عاود صعوده.
وكما اعتدنا دائماً فإن لا شيء في حياتنا الاقتصادية نجيد درسه وبحثه وتحليله لنصل إلى نتائج واضحة ومقنعة نستطيع من خلالها أن نرى الصورة كاملة وبألوانها الحقيقية، وهذه إحدى أسباب خيباتنا الاقتصادية وإخفاقاتها المتراكمة والمتراكبة طبقاً عن طبق.. لذلك نحن أمام نهج من التفكير والعمل يستسهل الأمور ولا يقدم حلولاً لأنه ببساطة لا يجهز لهذه الحلول عدتها من دراسة وتحليل وتقييم إلخ.
مثلاً، منذ العام 2008 بدت تلوح في الأفق نذر انفصال الجنوب وبالتالي حجب أهم مورد مالي عن خزانة الدولة، حينها كان المشفقون على اقتصاد البلاد يسألون عن بدائل ذلك المورد، فكانت الإجابة المتثائبة تأتيهم من عقول أكلها الكسل وكساد الهمة: «البركة في الدهب»..هكذا.. نعم «البركة في الدهب»، لكن كيف؟ فلا أحد شغل نفسه بدراسة ذلك البديل درساً اقتصادياً جيداً ليقدم إجابة تليق بمقام التحدي الذي يفرضه غياب دخل البترول.
نعود لحديث الدولار، ونقر هنا أننا قد أطربتنا تصريحات المسؤولين في شأن انخفاض «سعر» الدولار نتيجة لتحسن أداء الاقتصاد الكلي وزيادة الصادرات ونجاح حزم البرنامج الثلاثي بحسب رأيهم، ولكن سرعان ما انتاش طربنا وفرحنا ذاك بعض خبراء الاقتصاد وأكاديميوه وعدد من المصرفيين بتصريحات مضادة وشككوا في استمرارية ذلك الانخفاض في «سعر» الدولار فضلاً عن عدم إمكانية تواليه بسبب أن هذا الانخفاض يحدث لأسباب طارئة سرعان ما تزول.. مثل هذا التضارب ضار بالاقتصاد ومؤذ للاستثمار ومقلق لغمار الناس المكتوين بنيران اسعار كل شيء مستورد.
والناس في السودان يتحدثون عن «سعر» الدولار وليس عن قيمته في مقابل عملتنا المحلية كما يحدث في بلاد الله الواسعة، مما رسخ عندنا يقيناً لا يتزحزح أنه سلعة، حقيقية لا مجازاً، بل وسلعة نادرة، فإذا سألت عن «سعره» أتتك الإجابة فوراً وإن طلبت شراءه فلا تكاد تجده بسهولة أو قد لا تجده مطلقاً.
والأغرب أن هناك سعراً رسمياً للدولار ولكنه سعر «دفتري أو مستندي» قد لا يستخدم إلا في مجال الجمارك، فلا زال كثير من المستوردين يقومون بشراء الدولار في الخليج وباسعار السوق الحالكة السواد ويوردونه في حسابات البنوك المحلية بالخارج ومن ثم يستخرجون مستندات الاستيراد من هذه البنوك المحلية مقابل رسوم تبلغ 1.5 ـ 5%!!! ومع ذلك تجد مسؤولين كبار يتحدثون عن وفرة الدولار وأسباب الانخفاض وإمكانية توالي هذا الانخفاض حد الانحدار إلى عتبه الخمس جنيهات، أي إلى ما دون السعر الرسمي!! ولا نملك إلا أن نسأل: كيف؟
وحتى في ظل تحسن أداء الاقتصاد أو زيادة الصادرات تبقى الفجوة بين كمية الدولارات المطلوبة وكميتها المتحصلة، أو المتوقعة، كبيراً لأن هناك فجوة تفوق الثلاثة مليار دولار.. نحن هنا نتحدث عن احتياجات من العملة الصعبة لتغطية استيراد احتياجات يومية جارية، ولا نتحدث عن احتياجات تنموية تحتاج مليارات كثيرة من الدولار.
يجب علينا أن نراجع ونقيم عائدات الذهب وعائدات تصدير بترول الجنوب لأن كليهما قائم على توقعات، ومحكوم بظروف قد تتوفر وقد لا تتوفر، خاصة أن عائدات عبور نفط الجنوب تذهب لسداد مديونيات شركات البترول الصينية.
واحد من أسباب ارتفاع الطلب على الدولار هو وجود عمالة أجنبية يبلغ عددها سقف الثلاثة ملايين، ومعظمها يعمل في مهن هامشية، وتبلغ تحويلاتها إلى الخارج، بمختلف الطرق، حوالى المليار دولار، بحسب بعض التقديرات، كما أنها ترفع معدل الطلب على بعض السلع المستوردة بالعملة الاجنبية، هذه العمالة يجب تنظيمها واستبعاد مالا نحتاجه منها.
كما أن الفشل في استقطاب تحويلات المغتربين عبر القنوات المصرفية الرسمية يسهم في قلة المعروض من العملات الاجنبية وبالتالي يرفع الطلب على تلك العملات في السوق الموازية.. يجب تحفيز المغتربين لأنهم «أهم» مورد للعملة المحلية.
إلا أن كل ذلك ربما يكون ذا أثر محدود، وسوف لن يتحسن الأداء الكلي بصورة كبيرة وتتوفر العملات الأجنبية ما لم ننجز ثلاثية تحسين العلاقات الخارجية وإيقاف الحرب والإصلاح السياسي الداخلي لأن هذه الثلاثية هي العصا السحرية لانتعاش الاستثمار وتمويل مشروعات التنمية الاقتصادية والحصول على القروض والمنح الدولية وفك الحصار الاقتصادي.
أهل السياسة ومراكز صنع واتخاذ القرار وأهل الديبلوماسية وكل أنشطة العمل الخارجي، حال نجاحهم في إنفاذ تلك الثلاثية، هم من سيؤدي إلى انفراج اقتصادي حقيقي، وحينها سوف تكتسب التصريحات حول الحزم الاقتصادية والأداء الكلي للاقتصاد مصداقيتها.. هل نفعل؟.

الانتباهة

[/JUSTIFY]
Exit mobile version