عدت يا سادتي- إلى الخرطوم مساء أمس بعد ثلاثة أيام في ولاية البحر الأحمر.. كنت فيها شاهد عيان على (حالة شذوذ) غريبة.
زرت العاصمة بورتسودان.. ثم سواكن .. وسنكات ومنتجع أركويت ثم في طريق العودة مدينة (جبيت).. إضافة لبعض المناطق في الساحل الشمالي.. بكل المقاييس والله العظيم- الذي يجري هناك محير .. ليس من زاوية المشهد المادي الماثل أمامنا في الخدمات والمظهر الذي تكتسي به هذه المدن.. بل في الفكرة.. والرؤية.
قياساً بغالبية ولايات السودان، البحر الأحمر ولاية شحيحة الموارد نسبياً فلا نفط فيها وتقاسي شح المياه.. ومساحتها خمسة أضعاف ولاية الخرطوم تقريباً.. ومع ذلك تبدو المسافة (الحضرية) بين ولاية البحر الأحمر وكل ولايات السودان.. بما فيها الخرطوم.. وأي خرطوم.. لا أقصد الكلاكلات.. ولا الثورات.. ولا أمبدات.. ولا مترادفات الـ(ات).. بل أحياء مثل الرياض والمنشية وكافوري.. بكل هذه الأسماء البراقة هي مجرد أحياء متخلفة مقارنة بأحياء الدرجة الثالثة وليس الأولى- في بورتسودان.. من زاوية المظهر الحضري في الشوارع الداخلية المسفلتة والأرصفة المرصوفة.
ما الذي يحدث في ولاية البحر الأحمر؟؟
المسألة ليست مالاً ولا شطارة ولا سحراً ..هي مجرد فكرة مشفوعة بإرادة صلبة تتجه نحو الهدف بمنتهى إستقامة الرؤية.. والفكرة بسيطة جداً.. (تنمية الإنسان.. في تنمية بيئته).. بعبارة أخرى.. (أعطني بيئة راقية.. أعطك إنساناً راقياً..).
حتى عهد قريب كانت ولاية البحر الأحمر واحدة من الولايات الطاردة.. هاجر كثير من سكانها إلى الخرطوم يأساً من كدر الحياة الضنك بلا كهرباء ولا ماء ولا نظافة ولا.. ولا.. مجموعة متراكبة من الـ(لاءات).. الآن الأمر مقلوب رأساً على عقب.. الهجرة من الخرطوم إلى ولاية البحر الأحمر.. نفس الذين باعوا منازلهم وهجروا ولاية البحر الأحمر حاولوا العودة فوجدوا أن ذات منازلهم التي باعوها تضاعفت قيمتها قرابة العشرين ضعفاً في حوالي أربع سنوات.. والسبب أن (تمدن) المدينة التي كانت طاردة.. قفز بسرعة خارقة فتحولت إلى مدينة غاية في النظافة والرقى.. وطبعاً الجمال..
بالتأكيد حديثي هذا لن يصدقه عقل من لم ير الواقع المدهش في ولاية البحر الأحمر الآن.. لأن خيالنا السوداني المتخلف مربوط بالمشهد الذي نراه في أكبر مدن السودان الخرطوم.. لكن الذي يزور ولاية البحر الأحمر.. ويعود إلى الخرطوم ينتابه حزن نبيل.. على حال عاصمتنا.. وأكرر ليس عاصمتنا في الأحياء التي تنتهي بـ(ات).. بل في (أجعص) مستعمراتها التي يفترض- أن تكون راقية!!
ما الذي يجري في ولاية البحر الأحمر.. بكل يقين والله العظيم- هو تلبس بـ(حالة شذوذ) إداري .. وتفكير خارج النمط السوداني وخيال متحرر من (عقدنا) السودانية المحبطة..
(الشذوذ) الإداري.. في الفهم المغلوط .. في البحر الأحمر (الحكومة تخدم المواطن) في كل السودان الآخر .. (مواطن يخدم الحكومة).. والله العظيم للمرة الثالثة- ليس في ما أقوله أي تلاعب بالمفردات.. لكل كلمة كتبتها هنا عندي شواهد قاطعة لا تحتمل الجدل أو النكران.. هي حقيقة فوق طاقة احتمال العقل (المواطني) السوداني العادي الذي يدرك أنه ما اختلت الحكومة بالمواطن إلا كانت الجباية ثالثهما.
سأرشح لكم الأمر.. اصبروا علينا قليلاً
حديث المدينة : صحيفة اليوم التالي [/SIZE][/JUSTIFY]
