د. ناهد قرناص: لابي هند ولكل مغترب ترك اسرته وقلبه هنا وسافر جسدا بلا روح

نسرن نلتي .. هي عبارة باللغة النوبية كنت أسمع والدتي رحمها الله وهي تهمس بها لنفسها بينما يدها تلوح في الهواء لدخان التاكسي الذي اخذ (اخي عبدالحميد) الى محطة القطار بعطبرة ومن ثم الى الخرطوم والى السعودية . نسرن نلتي تعني حرفيا (شوفة حلم) ..ذلك ان الاحلام مهما طالت وتشعبت ..لابد من ان تاتي لحظة النهاية وتفيق لتجد نفسك وحيدا.

وكنا دائما ما نتندر بتلك العبارة وبحسرة امي على سفر ابنها الدائم الذي ظل دائما ياتي لزيارتنا في حالة (نسرن نلتي)…واذكر اننا كنا نعاتبها ونقول لها (عليك الله يا امي مش اخير ليهو من غبار عطبرة دا؟). قبل يومين وجدتني اقولها لنفسي وانا اودع (ابا هند) فقد انتهت الاجازة وصارت ايامه معنا فعلا (نسرن نلتي). يوم السفر وجدت كل ابنائي في أسرتهم ..اتفقوا بالليل على عدم الذهاب الى المدرسة ..كانوا حريصين على التواجد بالقرب من ابيهم طوال الوقت ..كانهم ياخذون منه ما يتزودون به لايام الغياب وكنت انا أراقب الموقف بصمت ولم استطع ان اقول لهم بانه لا فائدة والحلم قد قارب على الانتهاء فعلا .

اجازات المغتربين وكل البعيدين عن الوطن هي كالحلم الجميل المزدحم بشتى التفاصيل والذي يحضر لك اناس لم تراهم منذ مدة ومن ثم في قمته …ينتهى كما ابتدا …لا شئ ..ولا احد . اكثر الذي اخشاه هو التعود على الغياب …وذلك عندما يصير الترحاب مبالغا فيه ..والتجهيزات على قدم وساق لوصول الحاضر الغائب بالضبط كما في احدى قصص الطيب صالح القصيرة ..اظنها (رسالة الى ايلين) كان القادم من الخارج يستمتع بحفاوة الاستقبال ..والده الذي يسلم عليه بحرارة ..والدته التى ارتدت اجمل الثياب والشاي الذي يقدم له في الطقم الخاص ..ومجموعة الجيران الذين اصطفوا لتحيته …

فجاة استشعر البطل ان هناك شي ما مختلف…ولم ياخذ وقتا طويلا ليعرف ان اهله قد اخرجوه من حساباتهم ..وانه اصبح كنخلة خلعت من جذورها وملقاة على ضفة النيل ..يتحسر عليها الناس في الغدوة والروحة ولكنهم لا يزيحونها من الطريق. المغترب المهموم بقضايا اهله ومشاكلهم ..ياتي الى البلاد ليجد ان كل شئ قد تغير وان الناس قد مضت حياتهم بدونه وذلك ببساطة وكما تقول قناة الجزيرة (لأن الوقت لا ينتظر).

ابنائي كانوا يتحلقون حول ابيهم ويحاول كل منهم ان ياخذ منه وعدا بالتواصل …وهذا فعلا ما يحدث …تجد حديثنا صباح كل يوم حول الشاي ..يقول عبدالقادر (امبارح بابا رسل لي نتيجة المبارة بين برشلونة وريال مدريد)..وتقول هند (بابا قال لي حارسل اخر لوحة نزلوها في موقع التصاميم)…اما احمد الصغير فيتبادل مع ابيه اخر النكات والقفشات …شد ما يحاول أبو هند ان يكون معنا ..هنا او هناك..يبذل كل جهده ليجعل الحياة أسهل في غيابه ..وحتى اخر اللحظات هو يريد ان يطمئن على ملا انبوبة الغاز وعداد الكهرباء ..

تجده متجولا في البيت لاصلاح ما يمكن اصلاحه من كهرباء وسباكة وستارة (مخلخلة)…يحاول بكل ما يملك من قوة ان يداري توتر السفر وخوف الغياب الذي يمكن ان يطول . لابي هند ولكل مغترب ترك اسرته وقلبه هنا وسافر جسدا بلا روح ..مضحيا بكل لحظاته الجميلة وعمره الذي يتسرب من بين يديه ….اقول لهم (حفظكم الله في الحل والترحال …ومتعكم بالصحة والعافية وراحة البال ) وبالله عليكم …اكثروا من الاجازات الطويلة .وكذلك اجازات (النسرن نلتي)…وحتى يحين وقت اللقاء القريب باذن الله ….نهديكم اغنية مسجل ادم سيد الدكان (قلنا ما ممكن تسافر …نحن حالفين بالمشاعر …لسه ما صدقنا انك بجلالك جيتنا زائر)…

د. ناهد قرناص
وصباحكم خير

Exit mobile version