منى عبد الفتاح : مهارات بعثرة الشرق الأوسط

جاء حديث برتراند راسل “أول شرير في الوجود من اتخذ قطعة أرض، وقال هذه ملكي، وسذاجة الناس جعلتهم يصدقونه”، مناسباً مع تزايد الحديث عن الأرض، بقعة لم تفارق إعادة توزيع الصلاحيات، وعلى رقعتها المعينة، يتم الحياد والعزلة والصراع. عندما قامت الحرب العالمية الثانية عام 1945، كان العالم في أوج تهيئته لاستقبال النظام العالمي الجديد الذي خلفته الحرب الباردة فيما بعد، وكان ذلك عنوان الصراع في الشرق كما الغرب، الذي تماهت فيه الأرض مسرحاً واقعياً للصراع، وأصبحت خلفية فقط، متراجعة لصالح الصراع الأيديولوجي والحضاري.
ومنذ التسعينيات، تحولت منطقة الشرق الأوسط إلى مصدر لقلق الولايات المتحدة، بسبب عاملين مهمين، يتصلان ببعضهما. يأتي في المقام الأول عامل النفط، وما يتعلق به من سعي الولايات المتحدة وعملها زمناً طويلاً على إنشاء جسر حيوي مع دول المنطقة قائم على الحماية، لأسباب اقتصادية وسياسية. وحريٌّ بنا ألّا ندهش، لأنّ شعب الشرق الأوسط أميل إلى أن يعزو سبب سلوك ما إلى السياق العام، أو العوامل الخارجية التي تمت فيها الظاهرة، بينما الغرب أميل إلى أن يعزو سبب السلوك نفسه إلى الفاعل والعوامل الداخلية، وليس هناك من ملام غيره.
خرج الصراع التقليدي في منطقة الشرق الأوسط من قمقمه، وأخذ الأبعاد الأيديولوجية التي قنّنت له في النصف الأول من القرن الماضي على مستوى شامل بين الغرب والشرق. لم تنجح آلية حصر الفائزين والخاسرين التي أشار إليها خبراء ومحللون سياسيون، في صراع الشرق الأوسط. وإن كانت المقارنة تمت بين حكومات هذه الدول، فإنّ الانتباه إلى دخول الشعوب العربية في قلب هذه المقارنة يرجّح ما أثبتته تجارب مخاضات التغيير، وهي أنّها الأكثر خسارة في الحالتين، في حالة الثورة نحو تغيير النظم الديكتاتورية إلى ديمقراطية حقيقية، أو إذا ظلت قابعة تكتوي بجحيم هذه الديكتاتوريات.

تنظيم داعش موجودٌ في كلّ مكان، وفي كلّ قضية ساخنة تعيشها حالياً المنطقة العربيّة وجوارها الإقليمي

الآن، وعلى ضوء ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من تغيّرات جوهرية، يتم المزج بين المسرحين، الواقعي على الأرض، والهلامي على منظومة العقل والفكر، ليُبرّر للصراع الآني متخذاً من العوامل الجيوسياسية أكبر مظاهرها. فقد أصبحت هذه المنطقة نموذجاً للصراع القائم على الموقع الجيوسياسي، مختبراً قوة دولها في جيشها واقتصادها وسياستها ومصالحها الأخرى. بل حمل هذا التغيير أبعاداً مهمة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، فالانقسامات الطائفية والمذهبية تزداد في المنطقة، وأصوات العداء تتعالى. كما أنّ تنظيم داعش موجودٌ في كلّ مكان، وفي كلّ قضية ساخنة تعيشها حالياً المنطقة العربيّة وجوارها الإقليمي، بشكل من التطورات التي تحمل مخاطر أمنيّة وسياسية أشدّ وأعنف.
أما المقاربات التي وقفت حائط صد في وجه اجتهادات غربية كثيرة لمحاولة معرفة مصادر نشوء هذه الصراعات، فهو عائد إلى الثقافة الشرق أوسطية المرتبطة بالمكان الجغرافي. وهذا النوع من المقاربات يحتاج إلى زمن، حتى يتم استيعابه من ضمن منظومة الجغرافيا الثقافية التي كونت معتقدات وقيم الأفراد والجماعات في الشرق الأوسط، ومن ثم تحولها إلى سلوك، ثم إعادة انتاجها من خلال أشكال مادية ورمزية. وهذا ما أوجد الفراغ بين الشرق والغرب، لأنّه عندما نما هذا الفرع من العلوم في الغرب كان هدفه دراسة الشعوب النائية، باعتبار احتوائها على خصائص غريبة، لذا ظهر موقفها وكأنّه يحكم على الآخرين بالتوحش، أو الدونية على أقل تقدير.
لم يعد مصدر الخطر على الأمن العربي الذي يُطلق عليه تعميماً الأمن الشرق أوسطي الرقعة المكانية المحدودة في الموارد الطبيعية والبشرية، والتي زاد من ضعفها تقسيمها إلى طوائف متنافرة، تؤدي إلى هدر جزء كبير من طاقتها في الصراع الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي. وليس فقط الجغرافيا السياسية، ولكن، هناك أيضاً تأثير السمات السياسية والثقافية التي تعتمد على ديناميات ونتائج الحروب والنزاعات العديدة في سورية واليمن والعراق.
ليس احتمال الصوملة لأيٍّ من هذه البلدان في حاجة لأن يصبح حقيقة واقعة، خصوصاً مع بروز تخطيط داعش لتحويلها إلى إمارات إسلامية، بعد مرحلة التقسيم على أساس طائفي، يتخطى الحدود الوطنية، ليتشكل نظام شرق أوسطي إقليمي جديد. ولعل طفو هذا الاحتمال على سطح أحداث المنطقة، في ظل سلسلة من العُرى المتصلة غير المنتمية إلى دولة، وأغلبها من الجماعات الإسلامية المتطرفة، هو ما يُشكّل التحدي لتماسك فكرة الدولة من أساسها.
أما ما يظهر من جراء اهتمام المحللين بسبر غور شخصيات، مثل بشار الأسد وأبو بكر البغدادي وغيرهما، ممن يغلب الحبر في تصنيفهما، وقد أُريق ما أُريق من قبل في تصنيف طغاة آفلين، فقد كان الأصوب الوصول إلى أفكارهم السلوكية، بما يتعدى محيطهم الجغرافي المكون من الشعب. ثم يذهب إلى كيفية اتخاذهم القرار باعتبار هذه الجغرافيا المدروسة تنشغل بالخريطة الذهنية، خصوصاً ما يدور فيها ويترجم إلى سلوكياتهم كأفراد وليس ثقافات جماعية، وبعد ذلك، يجيء التركيز على الأفكار بدلاً من العالم المادي. هذا الاهتمام بهويات الأشخاص جاء متأخراً، لكن اكتشاف عبثية الحرب وسيطرتها على جيل عربيٍّ كامل كانت الأكثر تأخراً.

Exit mobile version