بين شركات الاتصالات ومراكز القوى

نشطت بعض المجموعات التي تدعو لمقاطعة شركات اﻻتصاﻻت احتجاجاً على تردي الخدمات في ذات الوقت الذي احتدم فيه الخلاف بين شركات الاتصاﻻت حول الربط البيني لدرجة جعلها تخرج أضغانها وخلافاتها إلى السطح متجاوزة الجهاز التنظيمي لقطاع الاتصاﻻت (الهيئة القومية للاتصاﻻت)، فقد قامت إحدى الشركات بمخاطبة الجمهور متهمة إحدى الشركات المنافسة بأنها تغلق مكالمات مشتركيها المنشأة من شبكتها إلى مشتركي شبكة تلك الشركة المنافسة.
ﻻ أشك البتة وأنا أرقب التردي الفظيع في خدمات الاتصاﻻت أن تلك الممارسات يمكن أن تكون قد حدثت بالفعل في إطار الحرب المشتعلة بين الشركات لتعظيم مواردها وزيادة عدد مشتركيها.
لست أدري حقيقة ما يجري بين الشركات من ضرب تحت الحزام؟، لكنني أعلم علم اليقين أن على رأس الهيئة رجل عالم وحازم هو د. يحيى عبد الله ﻻ ينبغي بأي حال أن يسمح بهذه الممارسات إن وجدت.
أذكر أن إحدى الشركات كتبت لي في نفس اليوم الذي تم فيه تعييني مديراً للهيئة القومية للاتصاﻻت قبل عقد ونيف من الزمان بأنها قررت أن تطبق مجانية الانترنت في اليوم التالي مباشرة فكان أن كتبت لها بعد أقل من ساعة تقريباً من مباشرتي العمل محذراً إياها من الإقدام على هذه الخطوة، وأنها إن فعلت ذلك فإنني سألغي رخصتها فوراً، فما كان من الشركة إﻻ أن انصاعت لقرار الهيئة.
كانت الشركة تهدف إلى وضع الهيئة أمام الأمر الواقع وإخراج بقية مزودي خدمة الانترنت من السوق والمنافسة، وهو من المحرمات في نظم الاتصاﻻت شأنه شأن ما يسمى بالتسعير الضار الذي يفتك بالشركات المنافسة ويحيل السوق إلى غابة يسود فيها الأقوياء الذين يحطمون الصغار ويفرضون أنفسهم على المستهلكين وبالأسعار التي يملونها بعد أن أزاحوا الشركات الصغيرة في ظل عدم وجود من يقيم العدالة بين الجميع.
أمريكا، الدولة الجديدة التي اكتشفت لأول مرة عام 1492 كانت أول من ابتدع نظام الأجهزة التنظيمية لضبط الأداء وإقامة العدل بين المتنافسين في شتى القطاعات التجارية والخدمية حيث أنشأت المفوضية الفيدرالية للاتصاﻻت التي أسست بسلطة مطلقة يحتكم إليها قطاع الاتصاﻻت وتتبع للكونغرس، وبلغ من قوة تلك الهيئة الامريكية الـ(fcc) أن تفرض غرامة هائلة على شركة مايكروسوفت المملوكة لـ(بيل قيتس)، أغنى أغنياء العالم، في جنحة صغيرة ﻻ نلقي لها بالاً في دول العالم الثالث.
قاتلنا بضراوة حين كنت على رأس الجهاز التنظيمي(الهيئة القومية للاتصاﻻت) حتى تصدر بقانون تحت رئاسة رئيس الجمهورية أسوة ببنك السودان المسؤول عن تنظيم القطاع المصرفي بما يجعل الهيئة ذات سطوة ونفوذ على مراكز القوى في بعض الشركات التي كانت تستقوي بوزراء أعلى وأكبر وأقوى من الوزير الذي يرأس الهيئة، الأمر الذي جعلها مهيضة الجناح مما دفعني إلى تقديم استقالتي بعد أن عجزت عن كبح جماح مراكز القوى في الشركة التي استطاعت أن تملي إرادتها على الهيئة بل وعلى الدولة كون تلك الشركة كانت ترضع من ثدي الدولة ونشأت في مناخ احتكاري جعلها تقاوم الخضوع لمبدأ المنافسة والمعاملة على قدم المساواة مع المنافسين الآخرين.
إن أكثر ما يؤلم بحق أننا حتى الآن ﻻ نولي المؤسسات التنظيمية الاهتمام الذي يجعلها تنهض بدورها في النهضة والتطور وإقامة العدل ومكافحة الفساد، فكما أننا عاجزون عن إعمال مبدأ فصل السلطات التنفيذية والتشريعية(الرقابية) والقضائية بالصورة التي تجعلها تقيم نظام الحكم الراشد فإننا كذلك فشلنا في إقامة الأجهزة التنظيمية الكفيلة بإقامة العدل وإخضاع الأقوياء لسلطان القانون بعيداً عن الاستقواء بمراكز القوى.
لكي أقرب الصورة أكثر أتساءل ماذا سيحدث لو أن فريقي كرة قدم لعبا مباراة دولية بدون حكم يخضع الفريقين لقوانين اللعبة ؟بالقطع فإنهما سيتعاركان ويفتكان ببعضهما فتكاً، رغم أن اللاعبين جميعاً قد يكونون متحضرين ومتعلمين وعاقلين، لكن الطبع البشري الأناني لا يقبل أن يصبح الناس ملائكة.
لن ينصلح حال البلد وتسود مبادئ الحكم الراشد ونصنع مناخا جاذبا للاستثمار ما لم نقم المؤسسات والهيئات الحاكمة الضابطة المنظمة التي تحقق العدالة وتطمئن المستثمرين، إن قيمة العدل بين الجميع مرعية ﻻ يتغول عليها أصحاب النفوذ ذلك أنه في ظل وجود مؤسسات وهيئات الضبط والتنظيم والرقابة الضعيفة لن ينصلح حالنا ولن تنجح الخطط الخمسية والعشرية والاستراتيجية لأن العبرة في التنفيذ الذي ﻻ يتأتى بدون المؤسسات والهيئات الصالحة لضبط الأداء بعيداً عن التأثيرات التي تجعل الخطط مجرد حبر على ورق حتى لو صرفت الأموال الطائلة واقيمت المؤتمرات الجامعة.
مثال على ما يترتب على إنشاء مؤسسات ضعيفة، أذكر بلجنة التصرف في مرافق القطاع العام والتي تزايدت في ظل وجودها شركات (النهب المصلح) أو قل الشركات الحكومية بدﻻً من أن تقل أو تختفي وتنقرض. فلجنة ﻻ حول لها وﻻ قوة ﻻ تستطيع أن تقف في مواجهة مراكز القوى لأن تلك الشركات تصفى اسمياً حيث تباع لشركات حكومية أخرى تابعة لنفس الجهة التي تمتلك الشركات المصفاة!
أرجع لأقول إن على الهيئة القومية للاتصاﻻت أن تفرض نفسها على الجميع وﻻ تضطر الشركات للزهد في عدالتها وسلطتها بما يجعلها تستنجد بالجمهور بعيداً عن هيئة يحتقرها ويتطاول عليها من يفترض أنهم خاضعون لسلطانها وما من كبيرة من شأنها أن تحطم الاتصاﻻت أكبر من خرق اتفاقيات الربط البيني وﻻ زلت أرى أنه ما من قطاع يحتاج إلى سلطة تنظيمية ذات هيبة وقرار أكثر من الهيئة القومية للاتصاﻻت.

Exit mobile version