ايام كارلوس في الخرطوم .. أم ليلة القدر؟

(1)
من الصفات الراسخة في شخصية الصحافي السوداني المدعو عادل أحمد الباز أنه يكون متاحاً بكثرة لجميع أصدقائه ومعارفه في أحواله العادية، يحدثهم عن مصاعب الحياة وجلدها، ورهق الأيام وعنتها. أما إذا أنعم الله عليه بشيء من مطايب الدنيا، أو فتح عليه ببسطة في الرزق، فإنه يختفي تماما بين ثنايا الهواء، فلا تجده في أي مكان، ولا تراه ولا تسمع منه!
مؤخراً نما إلى علمي أن رواية عادل الباز (أيام كارلوس في الخرطوم) صدرت عن دار العين للنشر في القاهرة، ووجدت رواجاً شديداً بمجرد إذاعة النبأ. وتتالت الأخبار أن الرواية طرّزت أرفف جميع مكتبات المحروسة وسط تهافت لافت للنظر من الجمهور على شرائها، وأن دور التوزيع العربية تقف متراصة أمام دار العين الناشرة، في القاهرة، طلباً للكتاب الذي يتوق اليه عربان الخليج والشام والمغرب.
(2)
كذلك تقدم الراغبون في ترجمة الرواية إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية بعطاءاتهم ومسودات عقودهم. فوضع عادل نظارته على عينيه، وشرع في المطالعة المتأنية المتفحصة، بحثاً عن أندى العقود غلة وأخصبها ريعاً.
وقبلها تناهت إليّ أنباء أخرى مفادها أن شبكة تلفزيون عربية اشترت الرواية بمبلغ خرافي، وأنها تنوي إنتاجها في مسلسل من ثلاثين حلقة ليعرض في رمضان من العام 2017. ثم أتاني أن الكاتب الصحافي الساخر حسين ملاسي مرشح للقيام بدور كارلوس في ذلك المسلسل. وقد رأيت في ذلك اختياراً موفقاً، وتمثلت المقولة الرائجة (هذا الشبل من ذاك الأسد)؛ إذ أن حسين ابن لرجل التعليم والمخرج والممثل الراحل إبراهيم ملاسي، أحد رواد المسرح والسينما السودانية. يضاف إلى ذلك أنه، أي حسين، كثير الشبه بالإرهابي كارلوس منظراً ومخبراً، شكلاً وجوهراً!
(3)
وكالمعتاد، ومع هذا الصعود المفاجئ في سعر العملة البازية، تنامى إلى علمي أن عادل هجر مسكنه الراتب في مدينة المهندسين بالقاهرة، حيث يقيم حالياً، واختفى في مكان آخر، قيل إنه فندق ذو نجومٍ خمس، وفي معيته المستشار الإعلامي السابق لرئيس الجمهورية الأستاذ محجوب فضل بدري.
ما علينا. بخيتٌ وسعيدٌ عليهما. ولم يعد في وسعي، والحال كذلك، سوى الاعتصام بقول الرحمن (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
وإن كنت أظن أن لي حقاً معلوماً في رواية كارلوس ونجاحاتها، إذ عاصرت كتابتها من ألفها إلى يائها، وكان الباز قبل الانقلاب الإنقاذوي عضواً في إحدى لجان الجبهة الإسلامية القومية. وعند نجاح الانقلاب تم تعيين أغلب أعضاء تلك اللجنة في جهاز الأمن والمخابرات. وكانت لصاحبنا بالتالي صلات نافذة وصداقات متينة في مجتمعات البصاصين والجلاوزة. وقد تمكن من توظيف هذه الصلات وتسخير تلك الصداقات لاستنطاق بعضهم في مسعاه لإعداد وصياغة المادة الكارلوسية. ولا يراودني شك في أن البصاصين إنما بذلوا المعلومات وتفصيلاتها لعادل عن إدراك ودراية ووعي. ولعلهم ابتغوا من وراء ذلك غايات بعينها ليست هي من همومنا ولا من شواغلنا.
والحق أنه لم تكن هناك في الأصل أيه فكرة لكتابة رواية، وإنما كانت المادة في مبتدأ أمرها عملاً صحفياً اعتيادياً أعده عادل في شكل حلقات للنشر في شهرية (سودان فوكس) “”Sudan Focus، وهي النشرة التي كان يصدرها في تسعينيات القرن الماضي بلندن الدكتور محمد محجوب هارون والباز نفسه. وكانت تلك النشرة الشهرية من أنجح المشروعات وأكبر الإنجازات الإعلامية الخارجية لهذين الكوزين، وقد جمعا من ورائها من دراهم الفرنجة ودنانيرهم ما فاق دنانير كسرى أنوشراوان ودراهمه.
(4)
لا علم لي بما فعل عادل وصاحبه بفلوس (سودان فوكس) بالأمس. ولا ماذا سيفعل بالثروة التي هبطت عليه اليوم من سيرة كارلوس الثعلب. المهم عندي كمواطن سوداني أن يدفع صاحبي هذا ما هو مترتبٌ عليه من حق للشعب في الرسوم الضريبية.
ويهمني أكثر ألا ينسى الصدقات والزكوات المستحقة. وها أنا أذكّره، وقد مكنه الله في عالم الرواية تمكيناً لم يكن ليتصوره، لا سيما وقد حظيت رواية كارلوس بتقريظٍ وفير وقبولٍ همير، أذكّره بقول الله جل وعلا: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ).
سبحان الله. ما هذا الزئبق الإسلاموي الذي يضطر العلمانيون لتذكيره بواجباته والتزاماته الدينية؟
كيزان آخر زمن!

مصطفى عبد العزيز البطل

Exit mobile version