محمد رفعت الدومي : غجر مصر

حتي وقت قريب كان التضارب حول أصول الغجر حادًا، نظريات خاطئة كثيرة في هذا السياق تم التعامل معها علي أنها حقائق لا تقبل الجدل، لكن، لأن منظومة المعرفة الإنسانية بالأساس هي منظومة من الأخطاء التي تم تصحيحها، نجح باحثون إسبان عن طريق تجميع معطيات الخريطة الجينية لـ “13” جماعة من غجر أوروبا في التوصل إلي أن الآباء الأوائل لكل جماعات الغجر في العالم كانوا قبل 1500 سنة يعيشون في الهند..
وعالم الغجر عالم غامض حتي الآن لا يعرف أحد علي نحو دقيق ما يدور وراء كواليسه، قد يطرب الآخرون لإيقاعات موسيقاهم التي تزخر بالحنين وبالإشارات الغامضة دون أن يتسائلوا من أين يهب ذلك الحنين ولا إلي أين يرسلون تلك الإشارات الغامضة، وقد يحبون رقصاتهم دون أن يثير جموحها فضولهم للبحث عن مصدره، لكنهم، علي أية حال، لا يتذكرونهم كشركاء لهم في الكون إلا عندما يشعرون بحاجةٍ إلي الحديث عن لصوص ومجرمين وعرافات، وهذا عرفٌ قديم نجحت الأجيال في تمريره بأمانة، ربما كان مصدره الجذري هو “يهوه”، إله بني اسرائيل العنيف!
لقد كانت التوراة، أشهر كتب الأدب اليهودي، لسوء حظ الغجر، هي المكان المفضل لزيارات معظم الباحثين في أصولهم، وليس من الصعب أن ندرك أن كل الأساطير التي نسجت حولهم تم استنساخها من اتهام التوراة لهم بأنهم تلك السلالة الملعونة التي أسسها حدَّادٌ يدعي “قابين”!
وكزت التوراة الغجر أكثر من مرة، لكنها ضغطت عليهم بعنفٍ في الإصحاح الرابع العدد 19 – 22:
(واتخذ “لامك” لنفسه امرأتين، اسم واحدة “عادة”، واسم الأخرى “صلة”.. فولدت عادة “يابال” الذي كان أبًا لساكني الخيام ومربي الماشية، واسم أخيه “يوبال”، وكان أبًا لكل ضارب عود ومزمار.. وولدت صلة “توبال”، “قابين” الضارب كل آلة من نحاس أو حديد)
وأسطورة واحدة قوية البناء ليس من الصعب أن تكون مصدرًا لإستنساخ آلاف الأساطير الصغري!
وعلي تلك الأطلال التوراتية قبل أن تعصف بها اختبارات الحمض النووي كانت تقوم ثلاث نظريات حول أصول الغجر يمكن اعتبارها نظرية واحدة ثلاثية الأبعاد، وهي:
– الغجرُ هم اليهود الذين طاردهم المصريون عقب الخروج الكبير!
– الغجرُ ليسوا سوي المصريين أنفسهم الذين طاردوا بني اسرائيل وضلوا في الصحراء!
– الغجرُ هم سلالة “فرعون موسي” وزوجته الذين تم إنقاذهما من الغرق في البحر الأحمر!
ولست محتاجًا إلي الحديث عن هيمنة الطابع الأسطوري علي هذا الهراء فهي واضحة، مع ذلك، لقد حظيت كل تلك النظريات برواج شديد، النظريتان الأخيرتان بشكل خاص، ذلك أن بعض الباحثين الأوروبيين قدّروا أن مفردة “جيبسي” التي تعني الغجر في الإنجليزية مشتقة من مفردة “إيجيبشيان” التي تعني المصري، ولقد ظل هذا الاعتقاد سائدًا حتي وقت قريب، ولعل جاذبيته واقترابه الشديد من المنطق هي ما جعل الإنجليز يطلقون علي أول جماعة من الغجر وصلت بلادهم:
“لوردات مصر الصغرى”!
وهذا ما عزز من انتشار تلك النظرية بشكل كبير!
ولأن الإجماع أو ما يشبه الإجماع من شأنه أن يضفي علي الأكاذيب ظلالاً من الحقيقة صدَّق الغجر أنفسهم هذا النسب، فاشترطت جماعة منهم تسجيل أبناءها في “مقدونيا” باعتبارهم مصريين!
من الجدير بالذكر أن كل باحث قام بزيارة التوراة أو شروحاتها المتأخرة بهدف التنقيب عن شئ يخص الغجر رجع من هناك يحمل أسطورة، وبمرور الوقت أصبح لدي العالم حول الغجر حزمة من الأساطير، مثلاً:
قالوا أن مسامير صليب المسيح كانت من صنع حداد من أحفاد “قابين” تقاضي من الرومان أربعين قطعة من الفضة ثمناً لها، ورأوا أن هذا سببًا كافيًا جدًا ليُلحقَ الرب بأحفاده لعنة النبذ والشتات إلي الأبد!
وهي رواية شائعة بين غجر نهر الدانوب خاصة، يظنون أيضًا أن أسلافهم فوق ذلك قتلوا أطفال “بيت لحم”!
من المثير، أن لهذه الأسطورة أيضًا جانبًا هزليًا، ذلك أن بعض الغجر يعتقدون أن أحد أجدادهم سرق أحد المسامير التي كان يجب أن تدق في جسد يسوع فخفف عنه الألم، فقال لهم “يسوع”:
– افعلوا في دنياكم ما شئتم فقد عفوت عنكم!
ويقولون أنهم منذ ذلك الوقت يستغلون تلك الرخصة ويحترفون الخروج عن القانون آمنين من عقوبة السماء!
وبمناسبة الحديث عن هؤلاء المغفور لهم كل خطاياهم مسبقاً لا أريد أن أفلت الفرصة قبل أن أضغط للمرة الألف علي مقولة “كارل ماركس”:
(التاريخ يكرر نفسه مرتين، كمأساة في المرة الأولي، وكمهزلة في الثانية)
من الجدير بالذكر أن تغريبة السوريين التي لا نعرف حتي الآن إن كانت ستسقط في العشب أم فوق الصخور، وما طالهم في البلقان وما يطالهم وما سيطالهم من المهانة في رحلة البحث عن وطن بديل، حدثٌ من شأنه أن يملأ كل من قرأ موسوعة الغجر بالدهشة، ذلك التشابه في المكان والزمان مذهل، وحدة الموضوع وتسلسل الأحداث أيضًا!
لقد اضطهدت دول البلقان الغجرَ أيضًا بسبب ازدياد أعدادهم تدريجيًا عند أكبر موجات هجراتهم إلي أوروبا من العراق والشام لسبب غامض!
والغجر، أيضًا، بعد حرب المائة عام، عندما ضرب الطاعون كل مدن أوروبا تقريبًا أسسوا بالتعاون مع عدد من المحامين أول نقابة للغجر في “فرنسا” عرفت باسم “اتحاد المتسولين”!
وكما صنع رؤساء دول “أوروبا” قبل أسبوع مع السوريين، حصل الغجر كذلك من الملك “سيكيسموند” علي إذن بدخول الكنائس والعمل والتجوال بحرية في كل مدن أوروبا، ظل ذلك الإذن صالحًا حتي اكتشف الأوربيون بمرور الوقت أمراضهم السلوكية الخاصة فتآكلت صلاحيته بشكل كبير!
لقد ارتاب الأوربيون في تلك الجماعات التي ترفض الاندماج مع الآخر، ورأوا أنهم يحملون تهديدًا للمسيحية وللمسيحيين، وأعتقد الكثيرون منهم أنهم جواسيسٌ للتتار أولاً، فالأتراك، آنذاك، فقط، ضاعت الخيوط الفاصلة بين كلمة الغجر و كلمة “التتار”، وحتي الآن ما زالت مفردة من مترادفات مفردة: “tatar” في اللغة النرويجية تعني: “الغجر”، ونحن الذين عاشوا في جنوب مصر بصفة خاصة نعرف أكثر من غيرنا كم هذا الأمر يحرض علي طغيان الدهشة، ذلك أن أحد أسماء الغجر في جنوب مصر حتي الآن هو: “الططر”!
كأننا لا يجب أن نأخذ المسافات بعين الاعتبار عند دراسة العلاقات بين آباءنا الأوائل وجيرانهم في الكون أحياناً، وكأن العالم كان قرية صغيرة منذ أعوام أبعد بكثير مما نتصور!
قلة من الكتاب لمسوا الغجر من بعد إنساني، كـ “أنيس منصور”، يبدو أن صلة وثيقة ربطته بهم خلال طفولته في دلتا مصر كانت كافية ليظل مزدحمًا بشغف غريب بكل ما ينتمي إلي هذا العالم المثير، وله كتاب اسمه:
“نحن أولاد الغجر”..
تعقيبًا علي هذا الكتاب ربما، ادعي كاتبٌ، ربما كان يعرف “أنيس منصور” لكنه أبدًا لا يعرف الغجر أن “أنيس منصور” كان غجريًا، ولكي يعزز من صحة ادعائه ويكثفه ويضفي عليه ظلال الرجل الذي لا ينطق عن الهوي ادعي أن “أم كلثوم” أيضًا من الغجر!
الأغرب أن “أنيس منصور” وقع في الخطأ نفسه ورد إلي أصول غجرية نسب شاعر البؤس “عبد الحميد الديب” صاحب البيت المثير:
كأنِّي حائطٌ كتبوا عليه … هنا يا أيها المزنوق “طرطر”!
لا أصدق هذا، وما أعرفه من كاتب سيرة “عبد الحميد الديب” أن أباه كان جزارًا من “المنوفية”، صحيح أنه كان يتصرف كالغجر أحياناً، لكن هذا وحده لا يكفي لأن يكون غجريًا، فهو، علي عهدة كاتب سيرته، عندما كان يذهب إلي أحد أصدقائه، أو إلي أحد المقيمين في “القاهرة” من أبناء قريته، لا تنتهي الزيارة عادة قبل أن يتبادل معه اللكمات والعض بالأسنان أيضًا، وربما سرق قبل أن يمضي إلي حال سبيله من غرفة ذلك الصديق المسكين “قلم رصاص” ليكتب به قصيدة في هجائه عندما يعود إلي حجرته البائسة!
ولـ “أنيس منصور” مع الغجر حكايات كثيرة..
لقد بحث عنهم ذات مرة في رحلة له إلي “تشيكوسلوفاكيا” وتسلل إلي مجتمعهم وطلب من أحدهم أن يلتقط له معهم صورة، وعندما عاد إلي الفندق اكتشف أنهم سرقوا حافظة نقوده وجواز سفره!
وذات مرة في رحلةٍ له إلي “المجر” أو إلي “رومانيا”، لا أتذكر أيهما علي وجه الدقة، علم من الغجر هناك أن ملكة الغجر قد ماتت، وبالطبع، أدهشه أن يكون للغجر ملكة، وبرغم ذلك، وربما بفضله، قرر السفر إلي “إيطاليا” لأداء واجب العزاء، وهناك، وجد نفسه بين وفود المعزين من جماعات الغجر من كل القارات، ولاحظ، بعينيه البارعتين في التقاط التفاصيل، أن كل من تقدم لمصافحة ابنها وتعزيته ذكر اسمه واسم البلد التي أوفده غجرها لأداء هذه المهمة، وعندما جاء عليه الدور وجد نفسه يصافح ابنها وهو يقول جادًا:
– أنيس منصور، من غجر مصر!
هذه الحكاية، حتي 3 يوليو العام 2013 كانت تثير ضحكاتي فحسب، لكنها، منذ انقلاب يوليو اكتسبت بعدًا آخر..
كأن “أنيس منصور” كان يفضح حقيقة كل المثقفين الجوهريين في مصر، أتكلم عن المثقفين الحقيقيين لا المزيفين ماركة (صنع في المخابرات وأمن الدولة)، لقد أصبح مجرد التفكير في العثور علي مثقف مصري واحد متصل الظاهر بالباطن ضربًا من التطاول!
هؤلاء الذين باشروا تربية أعماقنا علي قيم وأفكار هم أبعد الناس مسافة عن الإيمان بها أي تعريف يليق بهم أكثر عدالة من “غجر مصر”؟
ماذا ينقص الآخرون للإقدام علي رجمهم بـ “الططر” بعدما اكتشفوا أنهم يفضلون ممارسة الحياة عند أقدام الديكتاتورية علي العيش في ظلال الديمقراطية؟
هذا تذكير ضمني بعمق القاع الذي أوصل إليه العسكر مصر، نخبتها هم أكذب أهلها وأخسهم قلوبًا..
من الجدير بالذكر أن ذعر المثقفين من سلطة إسلامية الطابع ليس مبررًا كافيًا لتمجيد القهر أو حتي الإحجام عن تعريته، ومتي رأيت أو سمعت أحد المتهمين بالثقافة وهو يزخرف وضاعته أو خوفه بهذه العلة فتأكد أنه ليس مثقفاً علي الإطلاق، ذلك أنه لا يستطيع استيعاب أن الثورة فعلٌ مستمر لا مؤقت، اشتباك متواصل مع قوي الشر وأعداء الحياة، وهو، أيضًا، لا يستطيع أن يستوعب أن الشارع هو المكان الطبيعي بالنسبة للمثقف، ولا أن وظيفة الكتابة بالأساس هي سرد العالم بحدقتين مختلفتين لصالح إنسانية الإنسان قبل كل شئ ثم تجميل الحياة بعد ذلك لا تجميل القتلة!
إن مشكلة الثورات المضادة أنها تعمل منذ البداية علي بناء عالم لا يمكن تصحيحه علي المدي القريب، هذا لا يمكن أن يحدث بدون أدوات معقدة يأتي في مقدمتها حزمة من المثقفين المتحمسين لتبجيل الديكتاتورية، ولسوء الحظ، وجد نظام “عبد الناصر” ضالته في معظم مثقفي تلك المرحلة الأساسيين، ولعلهم أصبحوا الأساسيين فقط لأنهم قبلوا بارتكاب هذه الجريمة بينما ابتلعت الظلال المدبرة مثقفين ربما أعلي من هؤلاء كعبًا فقط لأن النظام تعمد أن يحجب الضوء عن أسمائهم أو اغتالهم معنويًا أو أطعم زنازينه أعمارهم!
لقد كان “أنيس منصور” من أدوات العسكر علي طول الطريق، هذا لم يجعله فقط يقدم مشروعه كاملاً ويجترح استبصاراته تامة، إنما أمَّن له بالإضافة إلي ذلك ترفَ السياحة في أنحاء العالم علي نفقة المغيبين الذين لم ينزف قلمه يومًا للأسف حبره الفخم إلا لتزوير العالم من حولهم وتحريف الشرط الإنساني، هذه هي الحقيقة، مع ذلك، لكل حقيقة وجهان، فما من شك أننا لم نكن لنفوز بأدبٍ في رقيِّ أدب “أنيس منصور” لو استنكف أن يلعب هذا الدور أو التزم الحياد حتي!
مع ذلك، لم يخسر الذين انحازوا للإنسان إلا حرياتهم أحيانًا وأمانهم في أغلب الأحيان، لكنهم، ربحوا الخلود في رموز محلية، وهذه أيضًا حقيقة أخري، فهؤلاء علي الدوام مقاعدهم محجوزة في يمين القلوب، وسط الحشود، لا لإبداعاتهم في ذاتها، بل لمواكبة أفعالهم لها، ولإصرارهم علي الوقوف فوق جذور قناعاتهم والقتال دونها حتي النهاية، هنا فقط تصبح قوة الإبداع وضعفه آخر ما يكترث له المتلقي!
إننا نستمتع جدًا بقراءة إبداع “عبد الرحمن الأبنودي” ونحن علي يقين بأن الرجل لم يكتب ذات يوم حرفاً واحدًا من أجل الإنسان كما نستمتع بالقدر نفسه بحروف “أحمد فؤاد نجم” في الإشادة بالإنسان ومن أجله، لكن، الفارق الرحب بين وداع الشاعرين إلي الأبدية وذلك الحب الذي سيجت الحشود به نعش “نجم” لم يترك مساحة يتحرك فوقها أحد يظن أن الحشود لا تستطيع التمييز جيدًا بين من لا يكتب إلا من أجل حريتهم وبين من يكتب من أجل وضعه الطبقي أولاً، ثم، من أجل استمرارية الجلاد وحريته في قمعهم ثانيًا..
محمد رفعت الدومي

Exit mobile version