عندما يُحتفى بالعملاء.. منصور خالد نموذجاً

ومما أحزنني أن السودان، رغم أنه نال استقلاله منذ ستين عاماً لا يزال يعاني من أمراض التسنين، يحبو ويتعثر كطفل صغير لم يغادر تلك المرحلة التي لا يقوى فيها على الاستقلال بنفسه عن غيره، ولا أدل على ذلك من حالة التخبط التي يرزح في رمضائها، يتمرد أبناؤه عليه غير مفرِّقين بين الحلال الوطني والحرام الوطني، بل ويرتمون في أحضان أعدائه تعاوناً معهم في إنفاذ أجندتهم المستهدفة لسيادته عزته ونهضته.
دُهشت والله حين قرأت أن مجموعة من النخب السودانية أعلنت عن نيتها تكريم رجل خان وطنه وتمرد عليه، وكاد لدينه ونشر ذلك في كتبه بل نشرت الاستخبارات الأمريكية وثائق تثبت عمالته لها، ورغم ذلك بدلاً من أن تنصب المشانق من أجل تجريمه بتهمة الخيانة الوطنية أو على الأقل بدلاً من أن يصمت من لا يستحون من الإعجاب به بالرغم من مخازيه يعلنون على رؤوس الأشهاد رغبتهم في تكريمه!
ذكّرني ذلك السلوك من بعض الغافلين من نخبنا المستلَبة ثقافياً وحضارياً ببعض الماركسيين وبني علمان ممن تجرأوا وسودوا بعض الصحف (احتفاء) بذكرى هلاك جون قرنق الملطخة يديه بدماء أعظم أبناء هذه الأمة من الشهداء الذين ندر أن يجود الزمان بمثلهم وطالبوا بأن يسمى شارع المطار في الخرطوم، وليس في جوبا، باسم قرنق حتى بعد أن انفصل الجنوب بإجماع مواطنيه الذين قرروا بكامل إرادتهم أن يفارقوا الشمال وأهله بعد أن قالوا فيهم أكثر مما قال مالك في الخمر!
نحن والله في أزمة بل أزمات ليست سياسية واقتصادية واجتماعية فحسب، إنما أزمات مفاهيمية تتعلق بالانتماء الوطني ذلك أن الوطن عند بعض بنيه شيء تافه يُقدم عليه أي شيء كما أن أزماتنا متعددة ومتنوعة وهل أدل على ذلك من تحاورنا بعد 60 عاماً من الاستقلال حول كيفية حكم السودان والخروج من مستنقع الأزمات الذي لا يزال وطننا يغوص في وحلها.
لفضح هذا العميل وأمثاله سننشر بعض الكتابات التي نشرت عن سيرته المجللة بالعار.
ونظرًا لضيق المساحة سأعمد إلى نشر مقتطفات من مقال سطره بروف عبد الله علي إبراهيم الذي عثر بين وثائق الاستخبارات الأمريكية تلك الوثيقة الدامغة التي تثبت عمالة منصور للمخابرات الأمريكية منذ أن كان طالباً بكلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم) عام 1953، والمقال طويل ومن العجب العجاب أن عبد الله علي إبراهيم كتب عن (حيران) منصور خالد الذين بلغت بهم الغفلة واللا وطنية درجة ألا يكتفوا بالدفاع عنه إنما أن يقولوا إن المخابرات الأمريكية هي العميلة لمنصور خالد. وإليكم المقتطفات من مقال عبد الله علي إبراهيم (مكتشف عمالة منصور) والتي ربما تركت لها ما تبقى من مساحة اليوم وكل مساحة الغد من (الزفرات).
علقت بمنصور خالد تهمة أوريبة العمالة للمخابرات الأمريكية في سياق هذه الرصد الغربي الدقيق لنشاط الشيوعيين.. وكان أكبر من روّج لعمالة الرجل بالطبع الشيوعيون وظلوا حتى وقت متأخر من عام 1972 يصفونه بـ “عميل المخابرات الأمريكية” في تقويمهم لاتفاقية سلام أديس أبابا، وظلت التهمة ذماً سياسياً عاماً لمنصور لم يقم الشيوعيون الدليل الملموس على التهمة ذاتها وهو أمر صعب بالطبع وربما لم يكن الجيل الأول من الشيوعيين بحاجة إلى التدليل على ذلك.. كانت تكفيهم البينات الظرفية وما دونها.. فمن جهة كان منصور يشاهد في دوائر “الخواجات” غير حافل أو مكترث في وقت استفحلت الوطنية وأصبحت مجرد خلطة الإنجليز والرهط من عظائم الخيانة. فاكتفى ذلك الجيل الشيوعي الأول من البينات على عمالة منصور بالنظر المجرد والريبة الوطنية البديهية.. وبدا أن تهمة منصور قد أخذت تسقط بالتقادم حتى أن الشيوعيين أنفسهم سحبوا عبارة “وعميل المخابرات الأمريكية منصور خالد” حين أعادوا نشر بيانهم الذي قوموا فيه اتفاقية أديس أبابا منذ سنوات خلت. وقد سميت ذلك بـ “خفة اليد الثورية” لأنهم خدشوا مبدأ نهائية النص التاريخي وقدسيته بغير أن يصرحوا لقارئهم بدافعهم لتلك المراجعة.

Exit mobile version