الراقصة والأستاذ ..!

«قل لي من تُراقص وكيف تَرقُص أقل لك من أنت» .. الكاتبة!
استغرق الأديب الفرنسي العظيم جوستاف فلوبير أربعة أعوام كاملة – وقيل خمسة- في كتابة روايته الخالدة «مدام بوفاري»، كان يقضي النهار بأكمله ساهماً مستغرقاً في حيرته بشأن كلمة واحدة صغيرة هل يضعها أم يقوم بحذفها ..!
وقد تمخض حرصه الشديد – على تلك التفاصيل الصغيرة – عن عمل أدبي رائع، كان لبنة أولى لمذهب وفكر وفلسفة جديدة لمدرسة أدبية قائمة بذاتها، فقد اعتبر النقاد فلوبير الأب الشرعي للواقعية في الأدب الفرنسي، واشتقوا من «مدام بوفاري» اسماً لمذهب من مذاهب الكتابة الواقعية هو «البوفارية» ..!
ولكن على الرغم من القيمة الفنية للرواية وموقف النقاد الإيجابي منها صادرتها السلطات الفرنسية بمجرد نشرها بحجة أنها قصة فاجرة وبطلتها منحلَّة، وأن المؤلف يدعو من خلالها إلى تمزيق القيم الأخلاقية وهدم الروابط العائلية ..!
لكن محامي المؤلف والرواية دافع عنهما بقوله: «.. إن البطلة فاجرة، هذا صحيح، ولكنها قد لقيت أقسى أنواع العذاب في نهاية القصة، ومعنى ذلك أن المؤلف يريد أن يعاقب الفجور والاستهتار في شخصها..»! .. بعد هذا «الحنك» القانوني المعتبر أفرجت المحكمة عن المؤلف وعن روايته التي ظلت خالدة حتى يومنا هذا ..!
حكاية فلوبير مع سلطات بلاده تدلل – وبشدة – على أن المجتمعات مهما بالغت في تحررها أو أوغلت في حياديتها وتأثرها بثقافات الشعوب الأخرى يظل هذا التحرر مقيداً بضوابط محلية شديدة الخصوصية في تقييم الأخلاق والسلوك ..!
فالفرنسيون هم أكثر الشعوب تحضراً وتحرراً وحيادية في تقييمهم للأدب والفن، إنما يظل هذا التقييم مؤطراً بضوابطهم المحلية التي تجعلهم رغم احتفائهم بالفن والإبداع يتخذون مواقف صارمة من فكرة الخروج المطلق عن هذا الإطار العام ..!
وهذا هو بالضبط ما لا يدركه حاملو ألوية التحرر في بعض أجهزة الإعلام العربية الذين شطحوا في تقليدهم بلا تمييز، فأصبحوا نسخاً «تايوانية» متواضعة القيمة لا تشبه الأصل ولا تشبه نفسها ..!
استوقفتني – بل فترة – قناة الـ»إل. بي. سي» الفضائية اللبنانية عندما رأيت إعلامياً لبنانياً ذائع الصيت يتحدث بحماسة عن الفنون الجميلة الراقية التي اندثرت بفعل التخلف والجهل والعادات والتقاليد البالية.. وعلى المنصة حكام من ذوي الأسماء الرنانة ومسرح كبير وجمهور عريض، و»هيلمان» لا أول له ولا آخر، والنتيجة برامج مسابقات في الرقص الشرقي!!
أحد أعضاء لجنة التحكيم كان يبدو في الستين من عمره، له شارب كث ولحية مهيبة، ولو اجتمع به البعض في أحد المجالس لحلفوا «بالتقطعهم» على تقديمه ليؤمهم في الصلاة ..!
لكنه عوضاً عن ذلك كان يتحدث بصرامة إلى فتاة شبه عارية تقف على المسرح بجانب المذيع وهو يهز رأسه في أسف كناية عن خيبة أمله في إصرارها على الخطأ.. الخطأ في ماذا؟! في تعلم حركات وأصول الرقص الشرقي كما دربها على يديه!!
ثم جاء المشهد التالي الذي كان مقتطفات من لحظات التدريب رأينا فيها ذلك الرجل المهيب «الذي يصلح سمته لإمامة حشد من المصلين» وهو يرقص ويهز وسطه بمهارة تحسده عليها تحية كاريوكا ..!
مخرج البرنامج – النسخة التايوانية للثقافة الغربية – قال بأن الهدف من البرنامج هو إحياء فن الرقص الشرقي الجميل الذي كاد يندثر بفعل تخلف عادات وتقاليد الشعوب العربية .. أما نحن فنقول: الآن – فقط – علمنا لماذا ينجو هؤلاء الجيران المتفرنجون ونعيش نحن – «الشعب المسلم وحكومته الإسلاموية» – في قلق من غارات جارتهم إسرائيل ..!

Exit mobile version