الذهب السوداني و انعدام الشفافية

بعد انفصال الجنوب في 2011 خسر السودان حوالي 65% من إنتاجه النفطي للدولة الوليدة. ومع الاهمال والتردي اللذين أصاب القطاع الزراعي يشهد السودان أزمة اقتصادية طاحنة في الخمس سنوات الأخيرة مع معدلات تضخم مرتفعة فاقت 40%.

بدأت الحكومة في التحرك للبحث عن بدائل تعيد تدوير عجلة الاقتصاد, وجدت ضالتها في التنقيب عن الذهب. كانت قد ظهرت مؤشرات عن وجود الذهب بكميات تجارية في شمال, شمال شرق وشمال غرب السودان ما دفع البشير للتصريح في عام 2012 بأن الإنتاج المتوقع لذلك العام قد يصل إلى 50 طناً.

رغم كل ذلك لم تسع الحكومة للتنقيب عن ذلك الذهب بصورة مدروسة ومنظمة إنما تركت المسؤولية للمواطنين الباحثين عن الثروة بأن ينطلقوا للمجهول بأساليب ومعدات بدائية للعثور على الكنوز المدفونة. ورغم نجاح البعض في استخراج كميات من الذهب وتحقيق حلم الثراء, إلا أن العديدين خسروا أرواحهم ومدخراتهم خلال رحلات التنقيب في الصحراء.

في 2014 بدأت الحكومة بمنع التنقيب الأهلي – كما سمّته – في بعض المناطق وتمت مصادرة المعدات والأجهزة من المنقبين.

في يوليو من العام الحالي, وبحضور رئيس الجمهورية في القصر الجمهوري, أبرمت وزارة المعادن ممثلة في وزيرها أحمد الكاروري اتفاقاً للتنقيب عن الذهب مع شركة روسية تسمّى (سيبيريا, سيباني أو سيبرن) ومثلها رئيسها فلادمير جوكوف خلال توقيع الاتفاق الذي شمل كذلك إنشاء مصنع كبير في شمال السودان لإعادة تدوير وصقل الذهب المستخرج بتكلفة 240 مليون يورو، ليكون المصنع الأول من نوعه في القارة الأفريقية.

للتذكير كان وزير المعادن السابق كمال عبداللطيف قد أبرم اتفاقاً مع نفس الشركة في ديسمبر 2013 للتنقيب عن الألماس بحضور رئيس الشركة سابق الذكر وحتى اللحظة لم يعلن عن أي نتائج من ذلك الاتفاق. عموماً بعد شهر من توقيع الاتفاق الأخير للتنقيب عن الذهب صيف هذا العام خرجت الصحف بتصريح للسيد الوزير يبشر الشعب السوداني بأن الشركة قد اكتشفت بعد مسح جيولوجي بالأقمار الصناعية مخزوناً هائلاً من الذهب يصل لعشرات الآلاف من الأطنان.

بعد ذلك بأيام قليلة خرج شخص يدعى محمد صابون وعرف بنفسه كمستشار لوزارة المعادن في روسيا في بدايات عام 2014 للتنسيق بين الحكومة الروسية وجهات أكاديمية من جهة وبين وزارة المعادن من جهة أخرى في عمليات تدريب وتأهيل كوادر الوزارة وإبرام الاتفاقيات بين الطرفين.

الدكتور صابون أعلن استقالته من منصبه الاستشاري مبرراً ذلك بأن الشركة الحاصلة على حقوق التنقيب ما هي إلا شركة وهمية لا وجود لها وأن دراسة التنقيب المعلن عنها خيالية ولا يمكن أن تكون منطقية لأسباب ذكرها في تصريحه تؤكد حسب زعمه استحالة الكشف عن الذهب بهذه الدقة باستخدام الأقمار الصناعية وكذلك استحالة أن يكون في السودان تلك الكمية من مخزون الذهب.

تصريح صابون جذب العديد من الاهتمام, فمن جهة خرج الإعلام المعارض منتقداً الحكومة ومؤكداً أن تصريحات صابون ما هي إلا دليل آخر على الفساد الذي يحيط بالنظام الحاكم من كل اتجاه. ومن جهة أخرى بدأت الصحافة المحسوبة على الدولة في تشويه صورته بالقول إنه أنشأ شركة للقيام بالتنقيب إلا أن شركته لم تحصل على الامتياز لأنها غير مؤهلة.

وتم نشر مستندات ووثائق لم يستطع أحد التأكد من صحتها تشمل المخاطبات التي تمت بين صابون ووزارة المعادن للحصول على حق التنقيب لشركته. ومن علامات الاستفهام التي أحاطت بذلك الاتفاق أن الشركة الروسية أعلنت خلال التوقيع بأن لها شريكاً وطنياً من السودان لم يتم الإفصاح عن اسمه أو كشف هويته حتى لحظة كتابة هذا المقال. أيضاً كانت وزارة المعادن قد أعلنت عن مؤتمر صحفي لكشف الحقائق والرد على صابون إلا أن الوزارة ألغت المؤتمر في آخر لحظة. أضف لذلك اختلاف اسم الشركة بين كل تصريح وآخر وكذلك بين كل الاخبار والتحقيقات الصحفية التي أجريت عنها.

في أغسطس الماضي دافعت لجنة الطاقة بالبرلمان السوداني عن الشركة، وأكدت أنها بدأت التنقيب فعلياً وأن الشركة ستدخل مرحلة الإنتاج قريباً. دعم ذلك رئيس البرلمان إبراهيم أحمد عمر بعد أن أكد أنه زار مقر الشركة في زيارته لموسكو خلال أغسطس ضمن وفد برلماني. أيضاً صرح وزير المعادن الكاروري بدخول 14 شركة جديدة في العام المقبل للتنقيب عن المعادن في البلاد.

وأشار الى أن جملة الشركات العاملة في التعدين في قطاعاته المختلفة بلغت 412 شركة منها 173 شركة امتياز و175 صغيرة و54 تعمل في مخلفات التعدين. وأضاف أنه يوجد شركة روسية أخرى تعرف باسم كوش قد بدأت في إنتاج الذهب فعلياً. لكن ظهرت تساؤلات عن أن الشركة لم تقم بإجراء أي مسح أو عمل فعلي على الأرض، بل إنه لا وجود لأي مؤشر على الأرض يدلل على وجودها! قام الكاروري بالإجابة عن ذلك بأنه زار روسيا بنفسه وتأكد من وجودها. وأضاف الوزير أن السبب في تأخر مباشرة الشركة أعمالها هو أن الشركة تعاني من إشكالية في تحويل ملايين الدولارات للسودان للبدأ في عملها بسبب المبرر الحكومي الدائم لكل فشل ألا وهو العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان.

في الأيام القليلة الماضية سئل السفير الروسي بالخرطوم عن ما قد تقوم به الإدارة الروسية لتسهيل دخول وتدفق أموال الشركة الروسية للسودان. لكن إجابة السفير كانت مثيرة للجدل, حيث أكد أن الشركة المعلن عنها ليست روسية إنما هي شركة سودانية مسجلة في السودان وفقاً للقانون السوداني وبالتالي لا شأن لروسيا بالمسألة شكلاً وموضوعاً لكي تتدخل لضمان وصول تحويلاتها الخارجية للسودان. بعد مرور يومين على هذا التصريح من السفير وحتى وقت كتابة هذا المقال لم يخرج أي مسؤول سوداني للرد على ما قاله السفير في وقت تحاول الصحافة الوصول لأي معلومة تثبت وجود الشركة من عدمها.

في الختام, سواء كانت الشركة الروسية مزعومة أم حقيقية, إلا أن هذه القضية التي تشغل الرأي العام قد أكدت بما يدع مجالا للشك بانعدام الشفافية داخل أروقة الحكومة. وهذا الانعدام يفتح الباب للتأويل والتشكيك ويجعل الحكومة متهمة مدانة بلا شك. فلو كانت الشركة رسمية كان يتوجب على وزير المعادن عدم إلغاء ذلك المؤتمر الصحفي الذي تم الإعلان عنه لكشف الحقائق أو حتى إقامته في أي وقت لاحق, بدلاً من جعل المسألة معلقة لأكثر من 3 أشهر.

كان أحرى بوزير المعادن أن يخرج ويقوم بتمليك المواطنين كل المعلومات المتاحة والتي قد تدعم موقف الحكومة في القضية, وكذلك الكشف عن الشريك السوداني الموقع على الاتفاقية.

دليل آخر على غياب الشفافية, ادعاء الوزير التعاقد من مئات الشركات وأن أغلبها قد بدأ بالفعل في إنتاج الذهب, كل ذلك دون أن يتم الإعلان عن قبول عروض من شركات للاستثمار في الذهب أو حتى عدم رؤية مقرات لهذه الشركات ناهيك عن موظفين ومنسوبين.

يظل التساؤل, هل ينضم ملف الذهب لكل ملفات الاقتصاد التي سبقته كالنفط وغيره، بحيث يغلفه الغموض الذي يؤدي في نهاية الأمر لتدمير ذلك القطاع الاقتصادي وعدم استفادة الوطن أو المواطن من جنيه واحد كعائد من ذلك القطاع.

أشرف الجعلي

مدون سوداني
هافينغتون بوست عربي

Exit mobile version