لماذا فشل السودان بعد انفصال الجنوب ونجحت أثيوبيا بعد ذهاب أريتريا

ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار كما يقول الإمام “علي” كرم الله وجهه، وتلك المقولات والمأثورات دروس وعبر نستلهم منها ما يعين شعوبا مثلنا وأمماً تعيش محنة أن تبقى وتنهض ولكن الأيام قد أثبتت أن السودانيين جميعاً في الحكم والمعارضة لا يتعلمون من تجاربهم السياسية، وبلادنا غارقة في الدماء والحروب، وساستها في شغل عنها يتحاورون حول أشياء عفا عليها الزمان.
بعد ستين عاماً من الاستقلال يبحثون في مؤتمرات الحوار عن حرية وطن وثقافة شعب ويشتجرون في هل إسرائيل عدو أم دولة يمكننا التصالح معها.. وتتوقف عقارب الساعة في كل مدن وقرى البلاد للإصغاء لامرأة جاءت من البراري الكندية والمنافي بالولايات المتحدة الأمريكية، لتحدثنا عن كيف نبني وطناً ،وماذا يفعل المعارضون في الخارج.. والسودان مشغول بامرأة اسمها “تراجي مصطفى” ولجت الساحة كظاهرة صوتية في الأسافير، تتحدث بلا قيود أخلاقية عن كل شيء، ولكن في حيرتنا ننتظرها أن تسدي إلينا رشداً.
لم نتعلم من تجارب غيرنا.. نقرأ التاريخ الإسلامي ولا نتعلم منه.. نحفظ سيرة “عمر الفاروق” رضي الله عنه الذي أرسى قواعد عدالة وأسس حكماً يتوق إليها المسلمون منذ عام 634م، ولم يبلوغها ، ولم يعمر “عمر الفاروق” في الخلافة إلا عشر سنوات فقط.. ولكنها عشر سنوات تفيض بقيم العدل.. وندعي التأسي بسيدنا “أبو بكر الصديق” الذي خاض حروب الردة وأخمد فتنة النكوص عن الدين الإسلامي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبقَ “أبو بكر الصديق” في الحكم إلا عامين فقط.. ولا يكف السودانيون عن ترديد سيرة “عمر ابن عبد العزيز” الذي أسس- خلافاً لدولة الملك العضوض – قواعد الحكم الراكزة على هدى الإسلام في ثلاث سنوات فقط، كان شعار “عمر عبد العزيز” أن الصدق أمانة والكذب خيانة والانتصار للضعيف من القوي.. وظلت أقوال وأفعال هؤلاء السلف لا يأخذ بها حكام هذا الزمان ،حتى أذلتهم شعوبهم وقتلتهم في الشوارع .وما حدث في ليبيا إلا عبرة ودرساً لأولي الألباب، وأهل السودان في هذه الأيام يستقبلون عاماً جديداً ويودعون عاماً من عمرهم.. ولكن هل جلسوا لأنفسهم في ساعات صدق مع النفس وتدبروا إخفاقات الماضي.. ومطلوبات العام القادم، ومن حسن حظ هذا البلد أن النخبة الحاكمة من الإسلاميين هي الأكثر استنارة من بين كل حركات الإسلام السياسي، كما يقول الناقدون والناقمون، وحركات البعث الحضاري، كما يطلقون على أنفسهم، والإسلاميون في السودان أعدوا أنفسهم جيداً للحكم بالتأهيل والتدريب في مجالات الحياة من دراسة الاقتصاد في “كليفورنيا” والطب في “مانشستر”، والعلاقات الدولية في “ليون”، والإعلام والمعلوماتية في الغرب عامة، ولم يدفع الإسلاميون السودانيون شبابهم إلى الحوزات العلمية في “طهران” و”حيدر أباد” و”الكوفة” و”النجف”، وإنما كانت وجهتهم بريطانيا وفرنسا وأمريكا من أجل تأسيس دولة عصرية.. ولكن دروس التاريخ والعبر ، التي لم نعتبر بها جعلت قادة السودان (أسرى) لصراعات (عقيمة)، وفتنة سلطة، دفع ثمنها حتى حادي ركب الحركة الإسلامية هنا.. حينما ذهب “الترابي” إلى السجن وبقي التلاميذ في القصور، بخيرات السلطة ينعمون، وما تعرض له “الترابي” في سنوات خلت تعرض له “نابليون” الذي أسس قواعد الدولة الفرنسية ،وأشاد دور العلم وسن القوانين التى ظلت تحكم فرنسا حتى اليوم، ولكنه تعرض للنفي من بلاده ضيقاً بفكره وعمق نظرته، لفظوه بعيداً عن نهر الرون والسين، ومات بالحسرة والألم وهو ذات ما فعله الإيطاليون بـ”بينتو موسوليني” ، الذي أعدموه ونثروا دمه ما بين “روما و”جنوا” و(البندقية)، و”موسوليني” هو من بنى روما الحديثة.. وإذا كانت الأفراد شيئاً فإن انقسام الوطن الواحد لدولتين كان حدثاً، يستحق أن نتأمل في الأسباب والدواعي التي جعلت ثلث أرض السودان ،تنشطر ولا تستقر من بعد ذلك كلا الدولتين، هل تعلمنا من دروس انفصال الجنوب؟؟
بل هل أرهق مركز دراسات إستراتيجية نفسه بأعباء البحث عن الأسباب والدواعي التي جعلت (99%) من الجنوبيين يصوتون لصالح الانفصال؟ وهل بعد غروب السودان القديم يمكن أن يبزغ فجر شمس سودان ناهض، مثل أثيوبيا التي عادت بعض النخب التي لها تأثيرها البالغ على صناع القرار في البلاد، النظر إلى تجربتها بإعجاب خاصة على صعيد التنمية والتطور الاقتصادي، ولكنهم بالطبع يغمضون أعينهم عن المنهج السياسي، الذي جعل دولة مثل أثيوبيا يتنامى إنتاجها من الطاقة (الكهربائية)، والصحيح (الكهرومائية) إلى أربعة آلاف ومائتي ميقاواط ، بدلاً عن (360) ميقاواط خلال العشرين عاماً الماضية، وتستهدف أثيوبيا عبر سياسات رشيدة بلوغ الـ(12) ألف ميقاواط خلال السنوات القادمة، بسبب سد النهضة، وقد تعاقدت أثيوبيا مع دول الجوار مثل كينيا وجيبوتي والسودان وأريتريا لتزويدها بالطاقة، ونحن نملك الأرض المطلة على البحر، ولكن فقهاء وعلماء السودان يتركون كل شيء ويتحدثون عن شرعية مرور الخمور عبر الأراضي السودانية، لتذهب لدولة أخرى، كأن أراضي السودان مقدسة ،مثل “مكة” أو “المدينة”.. ومن فضائل المهندس “الطيب مصطفى” ،الكاتب المبدئي الذي أجهض من قبل ومعه الأستاذ “الهندي عز الدين” اتفاق “نافع” “عقار” ،ووقف القلمان الكبيران منافحين عن رؤيتهما بجسارة وصمود ،حتى تراجعت الحكومة عن ذلك الاتفاق، وبالطبع كان كاتب هذه السطور يقف إلى ضفة دعاة الاتفاق ،حتى بعد أن أنحنى د.”نافع” للعاصفة وقدر بحساباته الخاصة، أن الدفاع عن ذلك الاتفاق قد يجعله يخسر كل معاركه داخل حزبه وخارجه ،ويقذف به خارج أسوار السلطة.. و”الطيب مصطفى” اليوم يكتب بإعجاب عن التجربة الأثيوبية ،وفي قلبه حسرة على مآلات التجربة السودانية.. وأثيوبيا قد أصبحت قوة عسكرية كبيرة في المنطقة.. ولكن وزير الخارجية الأثيوبي ،حسب دورية (دايجست) التي يصدرها الصحافي “صالح محمد علي” والجنرال “الفاتح عروة” ،وكلاهما في وضع يسمح لهما بتمويل دورية رصينة، لها تأثيرها على منطقة القرن الأفريقي، يقول الوزير الأثيوبي إن أكبر تحديات تواجه أثيوبيا هي التخلف الاقتصادي وحالة الفقر المدقعة، الذي تعيشه الغالبية العظمى من الشعب الأثيوبي إلى جانب تفهمنا إلى الديمقراطية والحكم الرشيد.
وحينما انفصلت أريتريا عن أثيوبيا ،لم يقبل الأثيوبيون على البكاء والنحيب، رغم أن قومية (الأمهرا) لم يرضها ذهاب أريتريا كدولة مستقلة.. ولكن جلس الأثيوبيون لأنفسهم بعيداً عن الوسطاء.. ونظروا لواقع ما تبقى من الدولة الأثيوبية، كيف يحافظون على وحدة أثيوبيا؟؟ وهناك قوميات تتطلع أيضاً للانفصال عن الإمبراطورية الكبيرة، الأورمو يشعرون بالتمايز عن غيرهم ،والأوغادين يعتبرون أنفسهم أقرب لمجموعة الإسحاقيين في الصومال.. والبني شنقول، لا يجدون أنفسهم في الدولة المركزية.. لم تهتدِ النخبة الأثيوبية الحاكمة لمنهج العصا والتعسف والتنكر للواقع والادعاء بأن عهد التعدد الثقافي قد غربت شمسه ،ولم تنتهج الدولة الأثيوبية القبضة الحديدية المركزية، التي دفعت الأريتريين للاستقلال.. أفسحت أثيوبيا بقيادة رجل دولة عميق الرؤية وهو قائد حقيقي لكل الأثيوبيين للتعبير بحرية عن هوياتهم الثقافية وتعددهم الأثني وتمايزهم الديني.. بل أطلقت أثيوبيا يد الأقاليم . من شاء فليستقل عن الدولة المركزية، ومن شاء فليبقَ، وتلك شجاعة نادرة تحلى بها “زناوي”، لمعالجة أمراض أقعدت بدولته.. ومنح الدستور الأثيوبي الأقاليم حكماً ذاتياً وحق التصويت بالانفصال عن الدولة الأم بأغلبية نواب ذلك الإقليم، ومنذ أن أصبح الممنوع حلالاً، تمسك الأثيوبيون بوحدة الدولة.. ولم يذهبوا نحو اعتبار التعدد الثقافي مدعاة للتناحر، ولا تراث القبائل (لغاويس)، ولم يضطهد المسيحيون الأغلبية المسلمة ويزجون بها في السجون، ويطاردون الفتيات اللائي يرتدين الحجاب في الشوارع، كما تفعل الخرطوم في ملاحقة فتيات خرجن من الكنيسة ،بدون ارتداء الملابس غير المحتشمة، وقد ترك للشرطة أن تحدد شرعية بنطلونات الفتيات في شوارع المدينة، لأننا استصغرنا أنفسنا ،ولم نستفد من تجربة إسلامية مماثلة لتجربة السودان، هي التجربة التركية ،مع اختلاف في بعض التفاصيل والتوجهات والثقافات والرؤية، حيث لم تنجح تجربة حزب العدالة والتنمية في تثبيت قدميه، إلا بعد تخلصه من إرث المؤسس المعلم “نجم الدين أربكان” . وقد نأت القيادة الجديدة في تركيا بنفسها عن الشعارات، التي لم تكن تمثل في واقع الأمر إضافة للإسلام، أو دعماً للتطور الاقتصادي في الدولة، كما يقول د.”منصور خالد” في كتابه الموسوم “انفصال جنوب السودان”.. بقدر ما كانت تبلبل الأفكار وتثير الفتن وتخلق الجفوات بين الأتراك وقد كانت شعارات الأتراك تقول (المساجد هي قشلاقاتنا، وقبابها هي الخوزات التي تحمي رؤوسنا ومآذنها هي نصال رماحنا، والمؤمنون جنودنا)، تلك أهزوجة “أوردغان” ودفع ثمناً لنظمها عشرة أشهر وراء القضبان، وقاد التمسك بتلك الشعارات لحل حزبين إسلاميين ،هما حزب الرفاه والفضيلة، رغم حصولهما على نصف عدد المقاعد في البرلمان ،بدعوى أن تلك الشعارات تتناقض وعلمانية الدولة، لذلك قبل الإسلاميون في تركيا بالواقع، وبالإطار الدستوري العلماني للدولة، كما لم يبحثوا عن أممية إسلامية، بل وضعوا أساس التغيير في محاربة الفساد، وطهر القيادة ودفع النمو الاقتصادي، وإزالة تشوهات الاقتصاد التركي، وتراجع التضخم ومحاربة البطالة بتوظيف الشباب.
وتلك السياسات الحكيمة جعلت التضخم يتراجع من (40%) عام 2002م، إلى (8%) عام 2010م، وإلى (2%) عام 2014م، وأصبحت تركيا اليوم القوة الاقتصادية العاشرة في العالم بسبب طهر القيادة التركية ونزاهتها وحسن تدبرها، وانصرف قادة تركيا للمهام الكبيرة ووظيفة الدولة في تحقيق الرفاهية لشعبها ،ولم ينصرفوا لصغائر الأمور مثل مطاردة الفتيات اللائي يدخن الشيشة في ضفاف نهر البوسفور، أو مقاهي أسطانبول.. ونجح حزب العدالة والتنمية في أن ينال ثقة الناخبين في ثلاث دورات متتالية، لأنه قدم النموذج الذي يلبي أشواق وطموحات الأتراك.. أما نحن في السودان فقد أعلن مسؤول كبير في الشرطة يوم (الأربعاء) الماضي عن تجريد (20) ألف شرطي لمراقبة وتأمين احتفالات رأس السنة.. (20) ألف شرطي هو أكبر قوة نشرتها فرنسا بعد التفجيرات الأخيرة، ويماثل هذا العدد ما نشرته الشرطة الألمانية لمراقبة لقاء نهائي رابطة الأندية الأوروبية البطلة، للقاء العملاق الأسباني برشلونة وسيدة إيطاليا العجوز جيفنتوس العام الماضي.. وبعد إعلان الضابط الكبير في شرطة السودان، لن يُقدم مستثمر أجنبي لإهدار أمواله في بلد إذا احتفى شبابه بعيد رأس السنة، يحتاجون إلى (20) ألف شرطي.. وأثيوبيا التي نهضت اليوم عاصمتها “أديس” وأصبحت لها أنفاق حديثة و(كباري طائرة) وقطار لنقل المواطنين في عاصمة تشكو من قبل الزحام، وأزمات النقل، ساهم في التخطيط لنهضتها عالم واقتصادي سوداني ظل لأكثر من (30) عاماً في خدمة الأمم المتحدة، ومشروعات البنك الدولي في أركان الدنيا.. لكن “ملس زناوي” اكتشف حاجته للدكتور “عبد الله حمدوك” الخبير في الأمم المتحدة، وجعله من أقرب المستشارين إليه، عكف د.”عبد الله حمدوك” ومعه علماء من جامعة “أديس أبابا” لشهور يخططون لمستقبل الدولة الأثيوبية ،وكيف يتم تمويل مشروعات أثيوبيا الحديثة، وحينما أصبح د.”التجاني سيسي” مساعداً للرئيس طلب من حكومتنا أن تستعين بأمثال د.”عبد الله حمدوك” كوزير للتخطيط الاقتصادي، والتعاون الدولي، ولكن حكومتنا اختارت د.”كمال حسن علي” وفاءً لخدمته في مشروع تجنيد الطلاب عسكرياً للدفاع عن البلاد.
وبعد ستين عاماً من الاستقلال ونحن نرفع شعارات تفرق ولا تجمع (أن تراق منا الدماء وتراق منهم دماء ،وتراق كل الدماء) ، دون أن نسأل أنفسنا ماذا بعد إراقة كل هذه الدماء؟ ولماذا لا نسعى لوقف هدر الدم وإراقته من أجل لا شيء؟
ليست الحكومة وحدها هي المسؤولة عن ما حاق ببلادنا من تردٍ سياسي واقتصادي وغياب للرؤية.. والمعارضة أيضاً تتحمل بقدر ما يحدث الآن من تراجع وفشل في وحدة ما تبقى من السودان، إذا كانت المعارضة تركب سروج التمرد وتمتطي خيول الحركات المتمردة من أجل مكاسب وضيعة وتهدر كل الفرص، التي تتاح لها وآخرها فرصة الحوار الوطني ، الذي أثبت المؤتمر الشعبي ذكاءه وحسن تقديره وهو يدخل لجانه ويقول رأيه، فإذا أخذت الحكومة بنصف ما يتفق عليه في قاعة الصداقة، فإن ذلك عربون لمصالحة قادمة وخطوة نحو وقف الحرب، وإذا نكصت الحكومة عن عهدها وتخلت عن التزاماتها، فإن مشاركة المعارضة في الحوار الوطني بمثابة إقامة الحجة عليها.. وأياً كان فإن الرئيس سيجد نفسه أمام حقيقة وحيدة وهي أن يقدم بعض التنازلات لصالح القوى التي لبت النداء، الذي وجهه إليها وإلا خسرها جميعاً، وفي ذلك خسائر فادحة وكما بدأنا نختم، ولكن ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار.
{ إعفاء “خضر جبريل”
أصدر البروفيسور “إبراهيم الدخيري” وزير الزراعة خلال الأيام الأخيرة، حزمة من القرارات بعد أن أمضى أكثر من نصف العام في وزارة الزراعة، أهم تلك القرارات إعفاء وكيل وزارة الزراعة السابق، وتعيين المهندس الزراعي “علي قدوم الغالي” في منصب الوكيل لإضفاء روح جديدة وإصلاح ما أفسده الوزراء السابقون.. وتعيين “علي قدوم الغالي” مثّل ضربة موجعة جداً للشركة التجارية الوسطى ، وصاحبها “أمين عبد اللطيف” ، الذي أسس لإمبراطورية ضخمة جداً لتوفير أفضل التقاوى وأحسن المبيدات والحاصلات الزراعية، الشيء الذي جعل “أمين عبد اللطيف” رقماً كبيراً في الخارطة الزراعية والاقتصادية، وهو رجل أعمال إنساني لا يسعى وراء الكسب بأي ثمن.. وأينما وجد كفاءة نادرة أغراها بالمال، ومن بين الكفاءات النادرة المهندس “علي قدوم الغالي” الذي أسند إليه مركز تطوير التقانة الزراعية ،وحقق نجاحات جعلت بروفيسور “إبراهيم الدخيري” القادم لوزارة الزراعة من قلب الحقول وكليات الهندسة الزراعية.. لذلك منذ قدومه آثر “الدخيري” صمت العلماء ووقار الباحثين، لم يلهث وراء أجهزة الإعلام ويؤمن بالعمل في صمت بلا ضوضاء.. ولكنه وجد الفساد في الزراعة قد غطى الجزيرة وفاض على القضارف وتدفق في كردفان وملفات التقاوى والسماد والبذور المحسنة تزكم رائحتها الأنوف، والخطوة الأولى التي اتخذها الوزير “الدخيري” اختيار وكيل وزارة عصري.. مثل “علي قدوم الغالي” ثم تبع ذلك القرار بإدخال يده في جحر الأفاعي وعش الدبابير بالإصرار على إعفاء “خضر جبريل” ، المدير العام السابق لوقاية النباتات، وللوهلة الأولى قد يبدو منصب مدير وقاية النباتات هامشياً ، وهو لا يتعدى موظفاً في الخدمة المدنية.. لكن في واقع الأمر مدير وقاية النباتات يجلس على كرسي تحيط به الدولارات والريالات والجنيهات من كل الجهات، وتتدخل جهات عليا في الدولة في بقاء أو ذهاب مدير عام وقاية النباتات ، وهي الجهة المنوط بها مهام كبيرة في استيراد مدخلات الزراعة وتستطيع منع أي مبيد من دخول البلاد.. لذلك ظل منصب مدير وقاية النباتات محل صراع شديد وتنافس بين أقطاب الحكومة . وقد تم إعفاء “خضر جبريل” أكثر من مرة في حقبة الوزير “المتعافي” ، ولكنه أعيد بسلطة أعلى من الوزير، وقد انتهى عقد “خضر جبريل” مع الوزارة منذ مدة . ورفضت الوزارة هذه المرة التجديد له ، لكونه قد استنفد كل الفرص بعد بلوغه سن المعاش.. وكان ديوان شؤون الخدمة قد تحفظ على تعيين “خضر جبريل” الأخير ، باعتباره قد بلغ سن المعاش، وتمسك الديوان بالقوانين واللوائح، ولكن “خضر جبريل” ظل في منصبه (7) سنوات مخالفاً بذلك قوانين العمل ،التي تنص على عدم تعيين المعاشيين في وظائف تنفيذية ومالية وإدارية، ولكن يمكن الاستعانة بهم كخبراء في حال أن تكون لديهم تخصصات نادرة.
وقد ترددت معلومات نشرتها صحيفة صوت الفلاح المقربة من دوائر صناعة القرار الزراعي أن “خضر جبريل” يمكنه العودة لمنصبه بقرار يصدره الرئيس ،أو أن يتعرض “الدخيري” لضغوط ترغمه على سحب قراره، ولكن يبقى “خضر جبريل” ليس هو القضية الوحيدة، التي تواجه بروفيسور “الدخيري” ، وهو يقود حملته الإصلاحية في القطاع الزراعي، فإن قضية القطن المحور وراثياً، الذي جاءت به الوزارة في عهد “المتعافي” وفقد السودان سوقه التقليدي بسبب تلك الخطوة، من القضايا التي تنتظر من الوزير “الدخيري” الشجاعة والإقدام على الإصلاح ، بغض النظر عن تبعات ذلك، والآن هناك أكثر من (9) آلاف بالة من القطن تنام هانئة في ميناء بورتسودان ، تحتاج إلى من يقرر في مصيرها.. وقد رفضتها الدول التي كانت تستورد قطن السودان الطبيعي، كما أن أطناناً من بذرة القطن المحور وراثياً ترقد الآن في مخازن الباقير والحيرة تلف الحكومة . هل تذهب تلك البذرة إلى مصانع الزيوت لإنتاج زيت محور وراثياً، قد يضاعف من الأمراض التي تفتك بالسودانيين، أم تذهب البذرة غذاء للحيوان وبالتالي نفقد أيضاً أسواق الثروة الحيوانية؟؟
إن تلك الملفات الشائكة تعتبر تحديات تواجه البروفيسور “الدخيري”.

المجهر السياسي

Exit mobile version