بين نداءات عشرات الرحلات المغادرة الدوحة كان “هاشم” قد لبى النداء الاخير

نداء الرحلة الأخيرة..

سافر اخي الاكبر هاشم ود محمد ود صالح الجاز بكامل اناقته وحزنه ..

سافر بلا انتظار في طوابير الموت .. ولا مقدمات ..ولا نداءات اخيرة ..

غادر كالخبر العاجل الذي فاجأ المحللين والمحررين والاحباب..

سافر وترك في القلب غصة .. وفي الفؤاد حرقة ..

وتركنا للموعظة ..

كان رحيله موعظة ..

ركز عصاه في هدوء كدرويش متجول قرب مقعد في مطار حمد الدولي….

وبين مئات الوجوه الغريبة لم يكن الا هو ..والحزن ..والانتظار ..

كان لا يرى الاجساد الانيقة والارجل المسرعة والامتعه المتناثرة ..

و لايسمع همهمات المسافرين ونداءات الرحلات وازيز الطائرات..

كان في تجليات اللحظة الاخيرة ..

حيث اللامكان.. واللازمان ..

أتخيله وهو ينظر الى هاتفه الذي يرن ..

فلا يجيب ..

اتخليه يغمض عينيه على كل الاشياء ..

فلا يرى..

لا يرى الا شقيقته وهي تغوص في النهايات البعيدة في قافلة الرحيل الابدي وهي ترفع يديها بالوداع.. فلا يستطيع فعل شئ ..

ولا حركة ..

ثم لا يرى الا الموت وهو يتسلل اليه خلسة من بين الامتعة والمسافرين ورجال الشرطة والمضيفين الارضيين ..

فلا يستطيع فعل اي شئ ..

ولا حركة..

ومن بين نداءات عشرات الرحلات المغادرة الدوحة كان أخي هاشم قد لبى النداء الاخير للرحلة المتجهة لدار خير من هذه الدار ..وأهل خير من اهله ..

أخذ عصا ترحاله وحث السير لاحقا بقافلة الراحلين السائرين الى صاحب العز الذي لا يضام .. والمجد الذي لا يرام ..

هناك.. حيث أمه وابيه وأخته عرفة واصفيائه وأحبائه ..

ترك الرحلة المغادرة للخرطوم وآثر الرحلة القاصدة للحي القيوم..

أتظنونه لم يودعنا؟

أحسسنا به وهو مسجى أمام الصفوف المتراصة في مسجد مقبرة ابوهامور يلقي علينا كلمات الوداع..

كان يتكئ على منصة الموت – كما كان يتكئ على منصة المركز الثقافي السوداني في قطر – ويتحفنا بأبلغ موعظة ..

موعظة الوداع والاحتفاء بنا وبه..

لم ينتظر انتهاء فترته بالدوحة التي تنتهي بعد اشهر قليلة..

كان ينظر الينا من وراء كفنه الابيض فيرى وجوه السودانيين بالدوحة .. يعرفها واحدا ..واحدا .. دبلوماسيين وصحافيين وموظفين ومستشارين وعمال ..

كلهم اضناهم الاغتراب ومحطات البعد ولهفة الاشواق والحزن المطبق عليه..

اترانا احتفينا به ام احتفى بنا؟

وقف فينا من وراء اكفانه خطيبا وحدثنا من القلب للقلب عن الرحيل الابدي .. وان الدنيا لا تسوى مثقال حبة من خردل .. وان المتدثر بالدنيا عريان .. عريان..عريان..

رحل صاحب القلب الكبير ..

القلب الذي اجهدته الايام وفراق الاحبة ..

القلب الذي احتوانا – كلنا – داخله ..

كان يلقانا بكله في مكتبه .. يفيض علينا من فيوض علمه ويهدينا حينما يودعنا كتاب او دورية أو مجلة .. ومثلما كان عظيما في حياته كذلك كان عظيما في رحيله ..

ها هو يغادر الدوحة محمولا على اعناق احبائه في رحلته الاخيرة ليرقد في هدوء الانقياء الاتقياء الاصفياء في شبر من ارض وطنه التي طالما أحبها ..

وطنه الذي مثله خير تمثيل في المحافل والمنابر ..

ها هو يعود اليه ويسافر عنه وعنا بكامل اناقته وهيبته ويودعنا ونودعه قائلين :

قلبَك مُو لحم من الدَبَادِبْ طَايرْ

صِنديد وقعةَ العركَة الخيولا دمايرْ

الموتْ يا جَليس أُم رُوبَه كاساً دَايرْ

سماحتُو عَلَيكْ مِتِل نوَرةَ العرِيس السَايرْ

اللهم ان أخي الاكبر هاشم الجاز بين يديك .. قابله بما انت له أهل .. يا ذا الفضل املأ قبره بالرضى والنور والفسحة والسرور .. وادخله أعلى عليين ..

عادل إبراهيم أحمد
9 يناير 2016
الدوحة

Exit mobile version