«معليش يا كوتش»!

هذا عنوان اختاره الكاتب والقاص الخصب الانتماء لفن الكتابة الشجية الأستاذ هاشم كرار ضمن مجموعة مقالات كثيرة جمعها لتصبح كتاباً شرفني بكتابة مقدمته.. «الكوتش» هو لاعب البرازيل الأسطورة بيليه.. ومعليش اعتذار منسوب لقطّاع طرق سطوا على بيليه.

يحكي هاشم أن لصوصاً في ريودي جانيرو اعتادوا الوقوف ليلاً على طريق سريع اتخذوه نقطة ارتكاز لنشاطهم اللصوصي الذي يقوم على السطو تحت تهديد السلاح.

ذات «ربطة» ناجحة أصاب اللصوص أساور وساعة ذهبية ومحفظة مالية.. وفيما كان اللص يتفرس في وجه ضحيته تبين له أن الضحية كان نجم البرازيل بيليه الذي صعد ببلاده على قدمه وبوأها منزلة عالية رفيعة بين الأمم وربط اسمها بكرة القدم؛ فأعاد اللص الأساور والساعة والمحفظة وهرب!.. بهذا التصرف يضعنا اللص وجهاً لوجه أمام تقدير الرمز؛ وتلك ضريبة يجب أن يدفعها كل المجتمع وقد دفعها قطّاع الطرق في البرازيل.

ذات صيف في القاهرة ذهبت مع زوجتي لسوق أمبابة لشراء ثوب نسائي.. ولما كنت أتحاشى الدخول معها لمثل هذه الدكاكين تجنباً للمفاصلة والمهاودة تركتها تذهب وحدها وانتظرتها أمام المحل الذي يحمل اسم «الأبيض للثياب الفاخرة».. ولما طال انتظاري دخلت المحل لأجد زوجتي في عراك مع صاحب المحل حول خمسة جنيهات كان يصر هو من جانبه للتمسك بها على أساس أنها ربحه وكانت هي الأخرى تصر على تجاوزها باعتبار أنها لا تملكها في الأصل.. ولما تفرست في صاحب المحل الذي كان صوته مألوفاً لأذني وجدته رئيس الجمهورية الأسبق المرحوم المشير جعفر محمد نميري.. وكان في لحظة تنازله عن جنيهاته الخمسة يحتسي شاياً سادة!.. أجاد دوره الجديد كبائع ثياب تماماً كما أجاد دوره في حكم الفرد!

على حوافي الحدود المشتركة بين أميركا وكندا توقفنا بمحطة بنزين بمدينة بفلو الحدودية.. فإذا بوزير بارز من وزراء الديمقراطية الثالثة يرتدي زي شركة «شل» يصب لنا البنزين في العربة.. وكان الشتاء ذا زمهرير والطقس يرسم أجواء من الرعب والخوف الذي يتخلق في الجوف سرياً.. رمقني فحييته ولما حيَّاني صار يبكي!

وذات مرة في لندن كنت أجلس في مواجهة الفنان محمد وردي في قطار «همر سميث».. كان أحد المدمنين يجلس جوار وردي.. في كل محطة يقطعها القطار كنت استعرض مسيرة وردي الفنية من «يا طير يا طائر» حتى صلاح أحمد إبراهيم والدوش ومحجوب شريف و«من غير ميعاد».. كانت أسراب الموسيقى تحوم حول كل القطار وكان المدمن يحدق في وردي وأنا أحوم داخل الأنغام ووردي «ما جايب خبر»!

ذات مرة قرأت خبراً في صحيفة «الوطن السودانية» مفاده أن الصحيفة انبرت لجمع تبرعات لصالح لاعب كرة كبير كان منتظراً بسجن أم درمان في قضايا تتعلق بشيكات.. كم أحزنني هذا الخبر وكم طافت ذاكرتي بأيام هذا اللاعب الذي أحبه كل السودان!

الرموز رئات لها في الغيوم هواء.. إنها مذاق التراب ومذاق الإقامة في القلوب الكبيرة التي أحبتها.. إن الرموز مذاق البشر.. هي من تمنح الأرض طعمها حين تكون الأرض هي روحنا جميعاً.

رحم الله الصف الوطني من بعانخي حتى قرنق.. والطيف الأدبي من حمزة الملك طمبل حتى النور عثمان.. لقد أعاد لصوص البرازيل لبيليه محفظته واعتذروا.. فمتى يعيد قطّاع الطرق لرموزنا مكانتهم؟!.

Exit mobile version