تغيير اسم “السودان” تفريط غافل في كل تاريخ السودان وحضارته

1-قرأت مؤخرًا ما كتبه الأستاذ الطيب مصطفى في “الصيحة” بتاريخ 31 يناير 2016م، عن ما أفهمه منه من ضرورة إعادة النظر في الاسم الحالي للسودان وما رد به الأستاذ جمال علي حسن في صحيفة “اليوم التالي” بتاريخ 2 فبراير الجاري مستسخفًا (كذا !) الفكرة. وإن لم أتفق مع الأستاذ جمال في جملة لغة الخطاب، فإني أتفق معه تمامًا في معارضة التغيير لما ستترتب عليه من أضرار تاريخية وحضارية وسياسية مستقبلية، بل واجتماعية الآن. الواضح أنها خلت منها حسابات الأستاذ الطيب مصطفى، ومستنبط أنها خلت منها حسابات الأستاذ عبد العزيز البطل سابقه في الطرح نفسه، كما يتضح في ثنايا حديث الأستاذ جمال. يحتوي الرد الحالي على أربعة أقسام. الأول (القسم 1) مدخل عام للموضوع هو هذا، والثاني (القسم 2)، عن جذور تسمية السودان باسمه الحالي، والثالث (القسم 3) عن الدلالات التاريخية للاسم الحالي وجذوره، والرابع (القسم 4) خطورة تغيير الاسم، والخامس (القسم 5) خاتمة.
حين يطرح امرؤ ما موضوعًا خطيرًا كتغيير اسم “السودان” الحالي، الذي ظلت تنادي به جماعات من حين لآخر، عليه عرض المقترح بجوانبه المختلفة، موازنًا بين إيجابياته وسلبياته، مرجحًا الإيجابيات ونابذًا السلبيات، آخذًا في الاعتبار نتائجه العاجلة والآجلة بعيدة المدى، المؤقتة والدائمة. لكن حديث الأستاذ الطيب مصطفى وما اقتطفه من الأستاذ عبد العزيز البطل يخلوان من هذه الموازنة، مثلهما في ذلك مثل سابقيهما الذين كنا نقرأ لهم من حين لآخر أيضًا.
ففي المقتطف من الأستاذ عبد العزيز البطل شيئان.
الشيء الأول أن “المعنى التاريخي المستبطن من تسمية السودان معنى عدائي مستوحش وإلا لما عيرنا به رفاعة الطهطاوي….” (انتهى النص) في بيتي رفاعة الطهطاوي اللذين أوردهما.
الشيء الثاني تساؤله عن مدى “الفخار والعزة في اسم اختارته لنا شعوب أخرى لم تر فينا غير ملامح العبودية بمعايير ذلك الزمان” (انتهى النص).
أما الأستاذ الطيب مصطفى نفسه فالواضح أن مناداته بتغيير الاسم كانت قبل الانفصال وبعده، وأنها مبررة الآن بأن “السودان الحالي لم يعد ذات البلد الذي كان يضم دولة أخرى هي جنوب السودان” (انتهى النص)، مضيفًا مقسمًا بالله “إن لم يكن هناك سبب لتغيير اسم (السودان) غير أنه لم يأت باختيارنا إنما باختيار آخرين تعييرًا لنا وتبخيسًا وانتقاصًا من شأننا لكان ذلك كافيًا لإعادة النظر فيه سيما أنه لم يمنح حكرًا للبقعة الجغرافية الحالية التي احتفظت به دون الآخرين مسمية نفسها به” (انتهى النص). وسبق قسم بالله بقوله “إن العرب سموا المنطقة الواقعة على امتداد الشمال الأفريقي أو بالأحرى المنطقة التي يقيم فيها بيض البشرة بأرض البيضان بينما سموا التي يقطنها السود في أفريقيا بأرض السودان” (انتهى النص).
الواضح الجلي تمامًا أن نصوص الكاتبين، التي لن نتجاوزها، توحي بأنهما لم يحيطا بالجذور التاريخية لاسم السودان، وأنهما اعتقدا، بل زعما، أن من سمى البلاد به تعمد تعييرها وتبخيسها وانتقاصًا من شأنها. في القسم التالي عرض للجذور التاريخية للتسمية.

s – Copy. 2جذور تسمية السودان
أولاً: إن جذور تسمية السودان بما يعني باسمه هذا، وهو “إثيوبيا”، راجعة لأكثر من ألفين وخمسمائة سنة. سماه بها اليونان أولاً فاللاتنين ثانيًا، كما سيأتي تفصيله بعد قليل (القسم 3، الدلالات التاريخية). فهو ليس باسم طارئ سماها به من شاء أن يعيرها ويبخسها به.
ثانيًا: ليس لديَّ من مصادر عربية إسلامية مبكرة، ليست بالقليلة، ما يؤيد مقالة الأستاذ الطيب مصطفى عن تصنيف العرب للشعوب في أفريقيا بين بيضان وسودان، ولا على قصرهم السود على أفريقيا. فهلا أكرمنا بمصدر واحد به هذا التصنيف. ففي رسالة الجاحظ التي سيلي عرض بعضها ما ينفي هذه ويبين سعة المصطلح. بل سيرى مما سيأتي من تصنيف للجاحظ أن العرب من “السودان”.
إن أشهر مصدر أساس في الحديث عن “السودان” (جمع جمع للاسم “أسود”) والبيضان (جمع جمع للاسم “أبيض”) هو رسالة الجاحظ المضادة لأقوال الأستاذين الموردة أعلاه، التي جعل فيها العرب، كلهم في قول وبعضهم في قول آخر، من السودان ومشيدًا بفضل السود على البيض في رسالته المعنية، باسم “في فخر السودان على البيضان”. فهو لم يقصر “السودان” على سود أفريقيا فحسب، بل جمع غير البيض في كل مكان. ففي تصنيفه للشعوب شمل فيهم “الزنج والحبشة، وفزان وبربر، والقبط والنوبة، وزغاوة ومرو، والسند والهند، والقمار والدبيلا، والصين وماصين. والبحر أكثر من البر، وجزائر البحر ما بين الصين والزنج مملوءةٌ سوداناً، كسرنديب، وكله، وأمل، وزابج وجزائرها إلى الهند إلى الصين إلى كابل وتلك السواحل” (انتهى النص). فهذا هو المفهوم اليوناني القديم للسودان والسُمران (بضم السين وتشديدها) الذين يجعلونهم منتشرين في الأرض من الهند شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، في الحزام المسمى الآن “حزام السودان” الذي لم يعرفوا ما وراءه جنوبًا في أفريقيا إلا ما كان في وادي النيل شاملاً السودان حتى البجراوية وإريتريا حتى مدينة أكسوم القديمة. ولو كانوا قد عرفوا من هم جنوب هؤلاء لصنفوهم في السودان.
وأضاف الجاحظ: “إن الله تعالى لم يجعلنا سوداً تشويهاً بخلقنا، ولكن البلد فعل ذلك بنا. والحجة في ذلك أن في العرب قبائل سوداً كبني سليم بن منصور”. ثم أردف بقوله: “قالوا: ومنا العرب لا من البيضان؛ لقرب ألوانهم من ألواننا. والهند أسفر ألواناً من العرب، وهم من السودان”. وحجة شمل العرب في السودان عنده أن جدهم إسماعيل عليه السلام أمه من السودان (من السود تصنيفًا لا سوداننا) لأنه، كما قال الجاحظ، “والقبط جنسٌ من السودان وقد طلب منهم خليل الرحمن الولد فولد له منهم نبيٌّ عظيم الشأن، وهو أبو العرب إسماعيل عليه السلام” (انتهى النص). وزاد أيضًا “وقالوا: كان ولد عبد المطلب العشرة السَّادة دُلْماً ضخما” وأن “عبد الله بن عباس كان أدلم ضخمًا، وأن آل أبي طالبٍ أشرف الخلق، وهم سودٌ وأدمٌ ودلْم” (انتهى النص). و”أدلم”، جمعها “دُلم” بضم الميم. و”الدلام”، مثل “الظلام” وزنًا ومعنىً، هو شدة السواد مع الطول. فإذا كان هذا حال آل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الجاحظ، فكيف نعد السواد عيبًا نقول إننا نعير به؟ إن مقالة الجاحظ بأن “البلد فعل بنا ذلك” توافق المفهوم اليوناني لسبب السواد والسمرة، حين سموا الأسود والأسمر، “إيثيوبس” بلغتهم ومعناها “ذو الوجه المحروق من الشمس”؛ أي ذو السواد والسمرة المكتسبين بفعل الشمس أصلاً. فهي تسمية كما يرى ليس فيها ما يسوء لكونها علمية بحتة. وإن صحت علاقة السواد والسمرة بالشمس، فإن الذي أدى إليهما لا الشمس مباشرة، بل مادة الميلانين تحت البشرة التي تسوّد البشرة أو تسمّرها بمقدار أشعة الشمس الضاربة عليها، وقاية للبشرة من الضار من أشعة الشمس. فكلما اشتدت الحرارة كثرت مادة الميلانين الاسوداد بها والوقاية بها من أشعة الشمس. فالاسوداد المقدر من مادة الميلانين نعمة من الله على البشر، الذين كلما اشتد سواد بشرتهم كانوا أخلق أن يشكروا الله عليه لا أن يخجلوا منه أو من التسمية به. ذلك لأنه ليس في سواد البشرة ما يعيب.
والذي يقرأ رسالة الجاحظ هذه لا يسعه إلا أن يفخر بالشعوب السوداء عامة، وانتمائنا إليها، وتسمية بلادنا باللون، لا أن نستنكرها. في ترجيحي لا يرجع هذا الاستنكار إلا لما علق بالأذهان مما لحق بالسود من تنقيص أيام التمييز والتفرقة العنصريين في القرنين الماضيين، التي انصرم منها الكثير، بحمد الله. فأصبح السواد عند بعض السودانيين منقصة يخجل البعض منها. لكن هناك من الملايين من يفخر به، وفي أمريكا بخاصة. ولو تابع الناس التوجهات الحالية عند الأمريكان – السود لأدركوا مدى نفورهم من الحضارة الغربية، الأنجلو – سكسونية بخاصة، والتصريح بعدم الانتماء إليها، واللجوء للتراث الأفريقي اعتزازًا به وبالسواد، واشتهرت العبارة المتغنى بها وسط السودان في أمريكا وبريطانيا “الأسود جميل (بلاك إز بيوتيفل)”، أي “اللون الأسود جميل” ردة فعل معاكسة لمن يسب السواد أو يخجل منه.
3. الدلالات التاريخية للاسم الحالي وجذوره

sأما تسمية “السودان” بهذا الاسم فإنها لم يقصد منها ما رآه الأستاذان الفاضلان من تعيير للبلاد وتبخيس وانتقاص من شأنها. بل هي تسمية قصدها حسن وتاريخي. فيها ترسيخ لماضيه العريق في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. فالاسم، في معناه ومراده، ترجمة للفظة “إثيوبيا” اليونانية التي يكون معناها هو “بلاد ذوي الوجوه المحروقة من الشمس”، من غير البيض من سود وسمر. فتكون هي “بلاد السودان” أو “بلاد السمران”. قصد به اليونان أولاً، واللاتين من بعدهم، البلاد التي اسمها “كوش”، وهي السودان القديم، المسمى بهذا الاسم في النقوش المصرية والسودانية القديمة والآشورية العراقية والنسخة العبرية للعهد القديم (كتاب بني إسرائيل) وترجمتها العربية. حلت “إثيوبيا” محل “كوش” في كل المكتوب باليونانية واللاتينية، سواءً أكان ذلك في الترجمات اليونانية واللاتينية واللغات الفرنجية الحية لكتاب العهد القديم، أم في كتب المؤرخين والرحالة المكتوبة باليونانية واللاتينية من منتصف القرن الخامس الميلادي إلى القرن الرابع الميلادي (نحو ثمانية قرون). قصد به سوداننا وحده ولم تقصد به إثيوبيا الحالية قط خلالها. ولم تسم المصادر اليونانية اللاتينية إثيوبيا الحالية به إلا بعد سكوتها عن سوداننا بنحو 170 سنة. ولم يكن في تسمية البلاد “إثيوبيا” ولا المنتسبين لها “الإثوبيين/ الإثيوبيون” بخاصة والشعوب السوداء/ السمراء تعمُّد لإساءة وحط لقدر. بل العكس، فإن من المصادر اليونانية اللاتينية ما بالغ في مدح “إثيوبيا” حقًّا أو باطلاً، بأنها مصدر الحكمة والمعرفة والكتابة (المصرية) والصفاء والنقاء، التي لا بد من زيارتها. فكان من الكتاب والرحالة الكلاسيكيين (اليونان – الرومان) من زار السودان، “إثيوبيا” عندهم في الفترة المروية، وقضى في مروي فترة من عمره بلغت سبع سنوات عند أحدهم. لذا فإن تسمية البلاد باسمها الحالي، المترجم للاسم “إثيوبيا” حين يكون معناه “بلاد السودان”، ليست إلا تذكرة باسمها في المصادر المكتوبة باليونانية واللاتينية، ووصلا للبلاد بماضيها العريق، السياسي والحضاري، والدور السياسي العالمي المهم للبلاد، حين كان اسمها “كوش” ومرادفه “إثيوبيا (بلاد السودان)” معًا وفي آن واحد، في تاريخ الشرق الأدنى القديم في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. فالملك السوداني المشهور تآرقو (تهارقا) وصفه نقشان آشوريان بما يعنيان “تـآرقو ملك مصر وكوشَ” و”تآرقو ملك كوش” وكتاب العهد القديم في أصله العبري وترجمته العربية بما يعنيان “تِرهـاقة ملك كوش” و”ترهاقة الكوشي”، وفي ترجمته اليونانية – اللاتينية بما يعني “تِرهاقة ملك إثيوبيا”. الأخير هذا ترجمة للنص العبري السابق نفسه.

4. خطورة تغيير الاسم
إن غير الاسم بآخر فستلحق بالبلاد أضرار تاريخية وحضارية فادحة. هي الآتية:
أولاً: هنالك عشرات الآلاف من المؤلفات العلمية الرصينة والشاملة باسم “السودان”، اسمًا أو نسبة إليه بمختلف اللغات من عربية وإنجليزية وفرنسية وألمانية وإسبانية وإيطالية وروسية وبولندية وإسكندنافية وصينية. تتناوله سياسيًّا وحضاريًّا وجغرافيًّا وسكانيًّا وعلميًّا وطبيًّا، بعضها من القرن التs – Copy (4)اسع عشر الميلادي، يحق له أن يفخر بها. ستؤول كلها للسودان الجنوبي حين ينتهز فرصة تغيير اسم السودان ويسمي نفسه “السودان” خالصًا بدل اسمه الحالي، كما سيرد في الفقرة ثالثًا أدناه، إن شاء الله تعالى. ومن الدراسات السودانية القديمة الصادرة في السودان المؤصلة التي ستضيع “مجلة السودان في رسائل ومدونات (سودان نوتس آند ركوردس)” التي بدأت إصداراتها بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. ومثلها المدونات والنشرات المتسلسلة بالألمانية والإنجليزية المسماة باسم السودان، نحو وقائع ما يسمى “مجموعة الآثار السودانية” في جامعة همبولت بألمانيا، و”نشرة الدراسات السودانية بجامعة فيينا”. كلتاهما بالألمانية. بالإضافة إلى المطبوعات هنالك مؤسسات علمية باسم السودان، أشهرها معهد آثار السودان بجامعة همبولت بألمانيا. فماذا سنفعل بهذا المعهد مثلاً؟. أسنطالب جامعة همبولت الألمانية بتغيير اسم معهدها ليواكب تغيير اسم البلاد الجديد؟ وماذا عن عشرات آلاف المؤلفات المنشورات باسم السودان؟
ثاتيًا: سينسى السودانيون بعد حين من الزمن، قد يكون طويلاً، أن بلادهم ذات الاسم الجديد هي “السودان” سابقًا، كما نسي معظم السودانيين الآن اسم “كوش”.
ثالثًا: ما إن يتغير الاسم إلا وستبادر جمهورية “السودان الجنوبي (جنوب السودان خطأً)” بتغيير اسمها ليكون “السودان” خالصًا. وهذا يقين عندي. وستنسب لنفسها، كل تاريخ السودان وحضارته بالمفهوم أن “السودان”، بلادهم بالاسم الجديد الخالص، هو “إثيوبيا (بلاد السودان والسمران)” المصادر باليونانية واللاتينية، و”كوش” المصادر الآشورية والمصرية والسودانية القديمة والنسخة العبرية وترجمتها العربية لكتاب العهد القديم. وذلك بالمنطق الذي في الفقرة 2. وسوف يحاجون بأن البلاد ذات الاسم الجديد لا علاقة لها بماضي البلاد القديم بعد أن تبرأت من الاسم الحقيقي للبلاد صاحبته، وهو “(بلاد) السودان” المسمى “إثيوبيا”، واستنكفت أن تنسب إلى السواد، واتخذت ما كان ينبغي أن يكون اسمها منذ البداية، إذ لا علاقة لها باسم السودان أصلاً وتاريخه وإنجازاته السياسية والحضارية نتيجة لذلك قط. فهم عرب دخلوا البلاد مؤخرًا بعد أن انتهى دور السود قبلهم، ولم يساهموا في تاريخها القديم الذي بناه السود المسمون “الإثيوبيين”، بمعنى “السود/ السودان”، كما سيجادلون، في المصادر المكتوبة باليونانية واللاتينية.
رابعًا: إن اتخذت البلاد اسمًا جديدًا ذا صبغة عربية إسلامية، نحو “سنار” مثلاً، فسيقال في “السودان (الجديد)”، السودان الجنوبي سابقًا، إن العرب المسلمين قد تبرأوا من اسم البلاد القديم المقرون بالسواد ومن تاريخيها الوثني والمسيحي وعادوا إلى أصلهم العربي الإسلامي الراجع للقرن الخامس عشر الميلادي حين أسقطوا مملكة علوة، المتبقية من المملكتين المسيحيتين، وأقاموا مملكة الفونج الإسلامية، بل والعربية بأسماء مؤسسيها. فهم سلالة هذه المملكة الحديثة نسبيًّا في تاريخ البلاد، وليست لبلادهم الحالية أي صلة بتاريخ ما قبل الفونج، وليست لهم إسهامات تاريخية حضارية راسخة القدم كحضارتنا نحن الوثنية أولاً والمسيحية ثانيًا. فلا مساجد لهم تضاهي معابدنا، ولا مدافن عظيمة شاخصة تنافس أهرامنا، ولا معثورات تدل على حياتهم الدينية أو المدنية أو الدنيوية أو الأخروية كمعثوراتنا، ولا نقوشًا وفيرة كنقوشنا، ولا أبجدية خاصة بهم كأبجديتنا كتبوا بها لغتهم وإنما هي أجنبية عربية لغة وكتابة. فهم زحزحونا من أرض الأجداد حتى انكمشنا في الجنوب، ونسبوا كل ماضينا المجيد لأنفسهم زعمًا باطلاً. وربما ينهض متعصبون في “السودان” (الجديد) ينادون للنهوض باسترداد أرض الأجداد واستعادة مواقعها الأثرية، كما فعل الصهاينة بفلسطين تحقيقًا ثانيًا لوعد “أرض ميعاد” جديدة، وبدعم وتحريض من إسرائيل. فيرث اللاحقون من أحفاد سودان اليوم، أكثر مما أورثنا له سياسيو بداية الاستقلال، مصائب جديدة وحروبًا قد لا تنقطع دفاعًا عن بلدهم وتراثهم القديم المهددين.

ssخامسًا: سيخلو الجو لبعض الإثيوبيين لنسبة تاريخ البلاد وحضارتها لإثيوبيا الحالية لا لشيء إلا اسم “إثيوبيا” الذي سماها به اليونان والرومان. وذلك بعد أن أسقط السودان بمسماه الجديد حقه فيها. وهذا الادعاء الإثيوبي لن يكون جديدًا، فقد قال به الأستاذ الجامعي الإثيوبي سيرجيو حبل – سيلاسي قبل ما يزيد عن ثلاث وأربعين سنة في كتاب له (1972)، بأن كل ما ورد باسم “إثيوبيا” في كتاب العهد القديم وكتب الرحالة والكتاب الكلاسيكيين هو عن إثيوبيا الحالية وفي حدودها التي هي عليها الآن. وهذه مغالطة غير علمية. كان قد فندها سلفًا وقبل حبل – سلاسي الآثاري البريطاني بدج (Budge) في كتاب له عن السودان القديم وإثيوبيا معًا في 1928، أعلم يقينًا أن سيرجيو حبل -سلاسي يعرفه واطلع عليه. فندها بدج بقطعه الصارم اليقيني بأن “إثيوبيا” الرحالة والكتاب الكلاسيكيين ليست هي الحبشة وأنه لا علاقة بين البلدين لا جغرافيًّا ولا إثنوغرافيًّا، وأنه من المستبعد جدًّا أن يكون الرحالة والكتاب الكلاسيكيون قد عرفوا شيئًا من الهضبة الإثيوبية.

سادسًا: في ضوء الفقرتين رابعًا وخامسًا، فبتغيير الاسم سيؤول ماضي السودان بإنجازاته الرائعة إلى السودان الجنوبي وإثيوبيا. إلى الأول باسمه “السودان (الجديد)” وإلى الثانية بالاسم “إثيوبيا”. ولا يبقى للبلاد بمسماها الجديد شيء من الماضي العريق الذي جعل بعض الآثاريين الفرنجة يصفون البلاد بأنها منافسة مصر في أفريقيا.
سابعًا: غير هذا وذاك، وبمعايير من لا يجادل بالخسارة التاريخية والسياسية والحضارية للبلاد، ولا يقيس إلا بالمقاييس السياسية الآنية، ستدخل حكومة البلاد في مأزق نفقة عالية التكلفة قد تستنفد كل ميزانيتها لإجراء التغييرات بالاسم الجديد على كل مؤسساتها وأوراقها المروسة، بل وعملتها، كما ستدخل المؤسسات التعليمية من جامعات علمية ومراكز بحوث في نفقات باهظة مماثلة. وماذا عن أغانينا الوطنية الذاكرة للسودان والسوداني اسمًا، المتغنية بهما، التي دعمت الحركة الوطنية أيام الاستعمار وناضلته وناطحته كما ناضل المناضلون وناطح المناطحون؟ من سيعيدها لتلهب الحماس وتذكي الشعور الوطني ولأي بلد بعد أن غاب المسمى والمسمون به لفظًا؟ أسيكون هو “السودان الجنوبي” حين يسمي نفسه “السودان” خالصًا أم تطوى وتُمسح بعد إذ لا رقعة أرض في الشمال بهذا الاسم يتغنى بها من أجله؟ فخلود هذه الأغاني ليس في لغاتها وألحانها وأدائها فحسب، بل في مجيئها في وقتها. ومهما أوتي المحدثون والمعاصرون من الشعراء من مهارات لغوية وخيالية عالية، والملحنون والمغنون من قدرات تلحينية وأدائية رفيعة، فلن يكون لمنتجات هؤلاء وأولئك الوقع الذي كان للأغاني الوطنية التي ولدتها أزمنتها المواتية لها وأحداثها التي وافقتها وعبرت عنها بإخلاص نية وتضحيات بدنية، لا لعائد مادي منها، يرجى أو يستهدف. وأدهى من ذلك وأمر ما يفعل بالراية البيضاء، إن ظلت محفوظة أو مصورة، باسم السودان التي رفعت في مؤتمر باندونق، الذي كان أول مؤتمر سياسي عالمي لرؤساء الدول للسودان المقبل على الاستقلال آنذاك؟ أتضيع كل هذه الموروثات القيمة المحورية في تاريخ البلاد الحضاري والسياسي لا لشيء إلا لتغيير اسم لا عيب فيه؟
ثامنًا: السؤال الذي يطرحه المرء هو: أي اسم بديل يخطر ببال المنادين بالتغيير يمكن الاتفاق عليه؟. أشك في إمكانية الاتفاق، بل وأرى، كما رأى الأستاذ جمال، أن محاولة الاتفاق ستولد خلافًا وشقاقًا وفتنة الناس أشد، الناس والبلاد في غنى عنها كلها، ويكفيها ما بيدها الآن. الأفضل أن تترك المحاولة كما كان ينبغي أن يترك الحوار غير المجدي حول الهوية.

5. خاتمة

كان ما تقدم بعض الردود والحجج المتاحة في هذا المقام المحدود، تفنيدًا للرأي بتغيير اسم البلاد بأعذار يراها المرء واهية، لا طائل لها كحوار الهوية الآن. فليس تغيير الاسم من ضرورات الساعة، إذ هناك ما هو أجدى وأهم. وليس من الحمكة إثارته في أي زمان، إذ هو والهوية من الفتن النائمة، التي سباتها أهم من صحوتها، ومن الخطورة بمكان إيقاظها.
ليدرك المنادون بالتغيير أن اسم “السودان” لم تسم به البلاد احتقارًا لها، وأن السواد ليس بعيب، لا ولا الوصف به، وأنه لا يقعد امرءًا أو بلدًا ما عن الإنجاز. فالسودان القديم الأسود باسمه “إثيوبيا”، “بلاد السودان” في إحدى ترجمتيها، تبوأ مكانة عالية في تاريخ العالم القديم السياسي والحضاري ليت البلاد تتبوأ أي شيء منها الآن. وعنترة الأسود لم يقعده سواده عن الإنجاز بطولة وشعرًا. وبلال منسوب لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم لا لونًا ولا نسبًا بل صبرًا وصمودًا في الدين وجمالاً في الصوت حين يؤذن. سيظل خالد الذكر ما بقي الإسلام والسيرة النبوية. وكيف ينسى المسلمون أن إحدى زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام اسمها “سودة”، بنت زمعة، وأن منقط الحروف العربية كنيته “أبو الأسود” الدؤلي الذي دخل تاريخ الخط العربي بأوسع باب وسيظل مذكورًا ما ذكرت الكتابة العربية وما تلي القرآن الكريم تلاوة صحيحة. ولا يُنسى بوشكين الروسي، الإثيوبي الأصل، الذي لا يزال رمزًا مهمًّا في الأدب الروسي منذ القرن التاسع عشر، وكان رفيع القدر في المجتمع الروسي في زمنه وتزوجته فاتنة من الفاتنات البيض الروسيات رغم سواده، الذي لم تخجل أو تتبرأ به منه الأسرة الأرستقراطية الروسية التي تبنته. والأمثلة لا تحصى. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الخلق بما فيهم من ملائكة وأنبياء ومرسلين.

*البروفيسور عبد القادر محمود عبد الله
* أستاذ الدراسات السودانية والمصرية القديمة

صحيفة اليوم التالي

Exit mobile version