“لقد عفوت عنهم”.. الترابي يضع وصيته الأخيرة على بريد بطل “الفُل كونتاكت” هاشم بدر الدين

“لقد عفوت عنهم”.. الترابي يضع وصيته الأخيرة على بريد بطل “الفُل كونتاكت” هاشم بدر الدين ويتعرف على حقيقة الكرافتة
“أوتوا”.. نزيف الذاكرة

دونما ضجيج يدلف دكتور الترابي نحو صالة المغادرة ويصعد إلى سلم الطائرة ملوحاً بإبتسامة متفائلة، بدأ كمن يحاول طمأنة الشيوخ المشفقين عليه. آخر عبارة ترن في ذاكرته مررها مسؤول التعبئة السابق علي عبد الله يعقوب (يا شيخ حسن إذا سافرت لأمريكا فسيقتلونك كما قتلوا الإمام حسن البنا من قبل وكل قيادات الحركة الإسلامية العالمية)، عاصفة حرب الخليج الأولى لم تهدأ بعد، إنه صيف العام 1992 والخرطوم للتو أضحت في قبضة رجال ملتحين تكشف هويتهم، الترابي رفض تماماً اصطحاب أفراد الحراسة الشخصية وهو على عتبة التلاشي، ترجل في أكثر من عاصمة دون مبالاة على مصيره الغامض، في مدرج مطار العاصمة الكندية أوتاوا هبطت الطائرة التي كانت تقل الشيخ الإسلامي بهيئته النضيدة، ليفاجأ ببطل (الفُل كونتاكت) هاشم بدر الدين مصوبا نحوه (لكمة) خاطفة، أردته مغشيا عليه في رصيف المطار وتم نقله مباشرة للعناية المركزة، آخر عبارة سمعها الشيخ وهو ما بين الحياة والموت “لقد قتلته”.. (I have killed him).
الحلقة المفقودة
بدا الخبر يتسرب شيئاً فشيئاً، الخرطوم التي باتت تغلي كالمرجل بالكاد التقطت أنفاسها، والرجال الذين هزتهم الكارثة يطوقون الأماكن، ثمة طائرة خاصة في جوفها عدد من أفراد الأسرة وضباط المخابرات شهقت في الفضاء لمتابعة التطورات الشكسبيرية بمسرحها البعيد، المستشفى الكندي يتحفز تماماً لاستقبال رجل خطير فيما يبدو، نبضات القلوب تتصاعد بقوة (يا الله، يا الله)، الحكومة بزيها العسكري المحض وشيوخ الحركة يعتكفون في الخلاوي للدعاء، ويتوسمون الرحمة من السماء، “لو قضي على الترابي قضي علينا”، المحبوب عبد السلام الرجل المقرب من الشيخ فتح خزانة أسرار الواقعة الأليمة (لليوم التالي) وقال في وقت سابق إن الطبيب الكندي اجتمع بأفراد الأسرة (جار النبي ودفع الله الترابي) بالتحديد وأخطرهم بأن المريض القابع في العناية المكثفة أخذت منه صورة مقطعية للرأس بينت أنه سيدخل في غيبوبة، تستغرق حوالي أربع سنوات وبعدها قد يتعافى بنسبة (50%)، بيد أنها استغرقت شهر فقط، وكانت المفاجأة المذهلة أن الشيخ فتح ستار جفونه فجر يوم عيد الأضحى المبارك فتسربت إلى مشاش روحه دعوات الحجاج (لبيك اللهم لبيك)، الشاهد على ذلك حسب حديث المحبوب أن السودانيين دعوا للترابي في وقفة عرفة، وقد استجاب الله لدعائهم، المفاجأة الثانية أن الطبيب الكندي تنازل عن أجره المادي بين يدي تلك الكرامة، إذاً؛ المحبوب كان من المفترض أن يرافق الشيخ في تلك الرحلة ولكنه عفا عنه حسب إفادة صديق محمد عثمان.
“كونكرب” في الواجهة
القيادي بالمؤتمر الشعبي صديق محمد عثمان بدا كمن يفحص الوقائع الماثلة ونفى أن يكون اعتداء كندا حادثا فحسب كما تم تصويره، بل المسألة برمتها تم الترتيب لها بشكل متقن، وتم استغلال هاشم بدر الدين، وهو مجرد أداة لذلك صفح عنه الشيخ، المهم أن رحلة الترابي إلى أمريكا ومداخلته أمام لجنة الشؤون الخارجية عززت للأمريكان محاذيرهم منه، وتأكدوا أنهم لا يواجهون شخصا متطرفا يمكنهم استفزازه لارتكاب أعمال جنونية تمكنهم من تأليب العالم عليه، بل هو رجل لديه مشروع ويعرف ماذا يريد بالضبط، لذلك قرروا سريعا تدبير أمر يبدو نظيفا وبعيدا عنهم وفي الوقت نفسه يحقق لهم غرضهم، خاصة وأن زيارته تزامنت مع المفاوضات السرية بشأن حقوق تنقيب البترول في السودان والتي انتهت بشراء جار النبي وشركة (كونكورب) لامتيازات شركة شيفرون بمبلغ (25) مليون دولار من أموال الحركة الإسلامية، وطبعا لم يكن صعبا على الأمريكان – والحديث لصديق – ربط جار النبي بالحركة الإسلامية، ولا التقصي من أصول أمواله التي اشترى بها الامتياز، فلم يكن ممكنا لهم أن يتركوا الشيخ يأتي إلى عقر دارهم ويمنحوه منصة لمخاطبة لجنة الشؤون الخارجية ومن ورائه بعض وسائل الإعلام ويلتقي عددا من النواب والمسؤولين، ثم يمنحونه امتياز البترول ليعود إلى بلده لإنجاز مشروعه الذي يتعارض مع مصالحهم.
الرجل الألمعي
هذه دوافع الاعتداء المتمثلة في وجهة نظر صديق مدير مكتب الشيخ الأسبق، ولكن الدكتور محمد محيي الدين الجميعابي لديه وجهة نظر مغايرة طرحها (لليوم التالي) تتركز في أن الجهات التي اعتدت على الشيخ حسن الترابي هي نفسها الجهات التي كانت ترتب لخلافته بالداخل، لافتاً إلى أن المقصود بالضبط قتل الرجل الأول في الدولة عن طريق بطل كاراتيه وليس بالأسلحة النارية حتى لا يتم تجريم القتلة وتبدو المسألة كأنها محض مشاجرة، الجميعابي كان ضمن الطاقم الطبي والقيادي المشرف على طعام وراحة الشيخ، فصوب على معجزة النجاة بأن دكتور حسن لا يهتم بالطعام وهو ضعيف البنية وكان من المفترض أن يموت في الحال ومع ذلك تعافى بسرعة، ويرجع السبب إلى “القوة الروحية المهولة التي يتمتع بها”، ويؤكد على صحة التقارير التي تشير إلى عبقرية الترابي بأنه (فري جينيس)، و”صاحب عقل ألمعي”، وربما هي نفسها المؤشرات التي ظهرت في المقاطع التي أخذت لمقدمة الرأس، ولكن.. “ثمة تقرير طبي خطير جداً احتفظ به المستشفى الكندي وربما تم تسريبه إلى جهات مخابراتية وهو ظهور دوائر ذكاء في قياس صورة الدماغ لا تتوفر في البشر عادة، وتضعه جنباً إلى جنب مع عباقرة البشرية”، دكتور الجميعابي قال “إنها نوع من الجينات النادرة”، وعزز ذلك بأن “الترابي أيضا رجل صبور وفيه صفات القادة العظام، يجلس بالساعات ويندر أن يطلب الحمام، ويصلي الظهر بوضوء الصبح، لم يتأثر بتلك الإصابة، مع أن أيما اعتداء على ذلك النحو يصيب حتى الحيوان بعاهة مستديمة، فما بالك برجل ضعيف البنية؟”.
شبيه آينشتاين
ثمة تصريح مقلق لوزير الإعلام وقتها الدكتور مهدي إبراهيم أثار غضب الشعبيين، وصف فيه الشيخ حسن الترابي بأنه “أصبح أسيراً لمضاعفات حادة نتيجة للاعتداء الذي تعرض له في مدينة أوتاوا، حسب ما توقع الأطباء إثر الحادث ـ بات حاد الطباع ويتحدث عن نفسه كثيراً ولا يعتدّ بالرأي الآخر، ووصل به الأمر أن يستفز رئيس الدولة أمام الملأ”، المحبوب عبد السلام خرج فيما بعد ورد تلك الاتهامات بمقال في صحيفة (الشرق الأوسط) زينه بعنوان ساخر (فتاوى طب سياسية) وقد ورد حديث على ذات النحو للدكتور عبد الجليل الكاروي أثار أيضا عاصفة من الجدل، استشهد الكاروري على التشريح بأن القلب محل ضخ الدم فقط والدماغ مركز الذاكرة بأنه عندما ذهب لمعاودة دكتور حسن الترابي بعد حادثة الاعتداء التي تعرض لها في (كندا) لاحظ أنه تغير سلوكه عما قبل استشفائه “غير ما مرة إذن يبتسم المحبوب ساخراً ويرد بمعلومة مثيرة للجدل بأن “قياس الدماغ للدكتور الترابي وضعه في مصاف العلماء الكبار (نيوتن وآينشتاين)”.. العبقربة هي كرة الثلج التي يدفعها المحبوب من عل، ويعززها دكتور الجميعابي، الذي ينفي بدوره حقيقة ما أشيع عن مضاعفات الإصابة، مشيراً إلى أن شيخ حسن بطبعه حاد ولا يجامل ويمكن أن يواجهك بكل عيوبك، والشاهد أن كل الذين يتحدثون عنه بسوء هم من الذين يحسدونه أو أخضعهم للمحاسبة والنقد القاسي، كما يقول.
اتصلوا بكابتن شيخ الدين
المفارقة المدهشة حقاً أن زعيم الأصولية المتطرفة كما ينظر له الغرب، أطل وهو يرتدي ربطة عنق وجاكيت أسود أنيقا، الترابي في عصف ذهني خاص لـ(اليوم التالي) يستعيد تلك التفاصيل ويقول إن التوقعات سلمت بأنه لن يعود للسودان، ولكنه استعاد الوعي تدريجياً وأبصر زوجته وصال فلم يعرفها، ودخلت عليه طبيبة طرحت عليه سؤالا بالفرنسية 2+3=5 فتهكم الشيخ عليها، لا أحاديث، ولا صور للقرآن فقط نمنمات جراء (فرمطة) الذاكرة، ولكن من الذي فعل ذلك؟، حسب ترجيحات السفراء الأوروبيين، هم (السي آي إيه)، وحسب تلميحات السفير الأمريكي للشيخ نفسه فهم اليهود.
المحكمة في ما بعد برأت هاشم بدر الدين، لأن الضحية “محض رجل إرهابي”، والغاية النبيلة “تخليص العالم من شروره”، لكن بدر الدين حسب وصف الترابي “عنده خلل فهم”.. ويمضي الشيخ في رصد ساخن لوقائع ما بعد العودة للخرطوم ويقول: “جئتها بغير رغبة علي عثمان، واستطرد بأنه حاول الاتصال بالكابتن شيخ الدين ليبلغه رغبته في العودة، حتى ولو حدث له قدر أن يموت في بلده. الشاهد أن تقارير الأطباء تشير بأنه سينتهي به الأمر كالطفل ويجب أن يعامل كطفل مدلل.
اختطف الشيخ بتاكسي
كان من زمرة المستقبلين في مطار الخرطوم عوض الجاز وعلي عثمان، وكل ما يتذكره الترابي أنهم خطفوه وأركبوه في سيارة وذهبوا به للعمارات دون أن يعلم أحد مكانه، فتساءل في الحال: لماذا جئتم بي إلى هنا؟، أعيدوني إلى أهلي أو أنني سوف أستقل تاكسي، لكن علي عثمان بحسب حديث الترابي كان مؤدباً معه، وقال له (برجعك برجعك) وظنوا أنه أصبح مجنوناً وسيتكلم دون وعي، لكن اللحظات القادمة هي الأخطر، كيف تعرف الترابي على من حوله؟ أول من تعرف عليه زوجته وصال وابنه صديق وطبيب آخر لم يذكره الشيخ.
طبيب في الظل
ولكن يبدو أن الطبيب ذلك هو من شغل منصب عميد كلية الطب الدكتور عمار الطاهر اختصاصي المخ، الرجل المهم جداً والذي يحتفظ بكل الأسرار الطبية، د. عمار امتنع عن الحديث للصحيفة بخصوص الحادثة، ولكنه هو الطبيب الذي تعامل مع الحالة وأجرى فحوصات جديدة لرأس الترابي، نتيجة تلك الفحوصات يعلمها هو وحده، ولكن مما يردده دكتور عمار أن الترابي بصحة جيدة ولم يتأثر نتيجة لتك الإصابة، دكتور الجميعابي مضى في حديثه للصحيفة أيضا بأن “مثل ذلك الاعتداء الوحشي أقل ما يمكن أن يخلفه هو شلل دائم أو حالة صرع أو فقدن للتركيز على الأقل”، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، فيا للهول! أنحن أمام رجل خارق بالفعل؟
فحص الذاكرة
التقارير الطبية أفادت بأن هاشم ضربه (3) ضربات واحدة في الرقبة لفصل السلسلة الفقرية، وواحدة في الجانب الأيسر من الرأس، وأخرى في الجانب الأيمن، في الأنف أيضاً تسببت في حالة من الرعاف، الضربة في الجهة اليسرى سببت له الشلل، ومن الخلف أوقعته أرضاً، وكان يتم حقنه بين كل ساعة في المشفى، وبعد سنة لم يتكلم الإنجليزية بطلاقته التي عرف بها، وأصبح يتمتم ببعض الأسماء ولا يتذكر الشخص إلا عندما يذكر له اسمه كاملا، يقول المحبوب بأن الطبيب الكندي لوح بـ(كرافتة) في وجه الشيخ وقال لي أكتب لي اسمك هنا، فقال له الترابي (هذه ليست ورقة) فبهت الطبيب، لم يفقد الذاكرة تماماً ولكن بات يصف هيئة الأشياء دون أن يتذكر أسماءها وحتى الرجال يستعيد مواقفهم وصفاتهم قبل أسمائهم بحسب شهادة المحبوب.
هاشم غير نادم
في التاسع عشر من أبريل للعام (2006) أي بعد (14) عاماً من الحادثة سحب هاشم بدر الدين جهاز الحاسوب خاصته ودون عبارة لم يستشعر فيها الندم بعد، ولكن الوصية التي أفرج عن بعض تفاصيلها أمس الأمين السياسي للشعبي كمال عمر تقول إن الترابي انفرد به ليلة الجمعة قبيل الرحيل بيوم، وأخبره بأنه عفى عن كل من ظلمه، أو اعتدى عليه، ومن بينهم هاشم بدر الدين، وأضاف كمال “قال لي أيضاً ابحثوا لكم عن أمين عام للحزب” فجزع كمال.

عزمي عبد الرازق
اليوم التالي

Exit mobile version