على الطريقة الصينية ..!

«الفساد هو بكتيريا السالمونيلا التي تنخر لحم التنمية وعظم الاستثمار» .. الكاتبة ..!
التاريخ الذي يذكر (ميسون ابنة بحدل الكلبية) بحماسة وتقدير كبيرين لا يفعل ذلك لأنها أم خليفة وزوجة خليفة .. إلخ .. كلا.. فـ ما أن حملت بابنها يزيد حتى سيرها الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان إلى ديار أهلها في نجد، بعد أن طلقها ثلاثاً، إثر ضبطه إياها متلبسة بالتعبير عن تعاستها الفظيعة من حياة العز والقصور (لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلىَّ من قصر منيف .. وأكل كسيرة في صحن بيتي، أحب إلىَّ من أكل الرغيف) .. إلخ .. تلك القصيدة الكارثة ..!
ما الذي فعلته (ميسون) حتى يذكرها التاريخ بدهشة متجددة طيلة هذه القرون من الزمان ؟! .. أبداً .. رفضت العز والجاه وحنت إلى حياة الفقر .. وعندما عادت إلى فقرها لم تندم – وهذا بالضبط هو مربط الفرس – لم تحاول استرجاع حياة العز والثراء الحلال .. لأنها ببساطة فضلت حياة الفقر بشروطها هي، على حياة الغنى بشروط زوجها الخليفة ..!
وهكذا .. ظلت حكاية رفضها المال تستوقف الناس على مر العصور وتجدد دهشة الإنسان من فكرة القناعة بالقليل مع كون (الكثير) فرصة سانحة .. إلى درجة أن (ميسون) أصبحت رمزاً لقيمة إنسانية باهظة وعصية .. قيمة مفادها أن المال وحده ليس الوجه الآخر للسعادة ..!
في مصر تداول الرأي العام – قبل فترة – حكاية رفض موظفة في الخدمة المدنية المال الحرام وتفضيلها الفقر على الغنى، وكأن حكايتها أحيت ذات الفكرة بتصرف – فكرة الدهشة من وقوع فعل الرفض كمبدأ أخلاقي – مهندسة معمارية اسمها (منال السيد)، رفضت قبول رشوة، قدرها اثنان مليون جنيه مصري، مع أنها تتقاضى رابتاً شهرياً قدره خمسمائة جنيه فقط ..!
فما الذي حدث؟! .. تم اختيارها شخصية العام في مصر لمحاربة الفساد .. استلمت منال الجائزة (قلة) من الفخار غطاؤها على شكل (تمثال نهضة مصر) .. وقامت بكسرها على الفور (وراء الفساد) .. على الطريقة المصرية ..!
لاحظ معي أن عدم قبول الرشوة ينبغي أن يكون الأصل في سلوك صاحب الوظيفة العامة، وأن عدم استغلال الموظف العام لوظيفته من أجل مصالح خاصة هو الأصل، وأن قبول الرشوة – المال الحرام – هي المتغير .. ولكن ..!
لكن شيوع ثقافة الدهشة من رفض المال (الحرام) في هذا الزمان الرديء، والتي تمتد جذورها التاريخية إلى ما قبل قصة (ميسون الكلبية) رافضة المال (الحلال) بكثير – شيوع هذا العرف الفاسد – حوَّل قبول الرشوة كوسيلة لتغلب الموظف العام على أعباء الحياة إلى عرف فاسد (ثابت)، فأصبح رفض الرشوة هو المتغير(المدهش) في شمال الوادي وجنوبه على حد سواء ! ..
غياب المؤسسية .. انعدام الشفافية .. المحاسبة .. ومساواة الجميع في الحريات .. ضبابية فصل السلطات .. القهر الوظيفي .. تنمر الرئيس وخوف المرؤوس .. شمولية نظم إدارة المؤسسات .. شيوع ثقافة (الأنا ماليَّة) بين الناس .. تلك هي – في تقديري – (أهم) أسباب انتشار الفساد في السودان الذي تبشرنا تقارير (منظمة الشفافية الدولية) بأنه في ذيل قوائمها ..!
في الصين العقوبة الرادعة لجرائم الفساد – استغلال المناصب العامة لتحقيق مكاسب شخصية، وقبول الرشاوي .. إلخ .. – هي الإعدام (وليس الأبعاد أو تغير المناصب) ..!
الفساد المالي يدخل في قبيل الفساد في الأرض .. والدواء الناجع لمحاربته ليس الاكتفاء باتباع سياسة (كسر القلة) على الطريقة المصرية .. بل بتشريع قانون (كسر الرقبة) على الطريقة الصينية .. فهل من مُذَّكر ..؟!
منى أبو زيد – (هناك فرق – صحيفة آخر لحظة)

Exit mobile version