قرار إيقاف الحديث الديني في الأسواق والطرقات العامة.. *حجَّرت واسعاً يا صاحب القرار !

*مدخل :*
تضج مجالس المدينة هذه الأيام بالحديث حول قرار إيقاف الحديث الديني في الأسواق والطرقات العامة ؛ والغريب في الأمر أن الجهة التي أمرت بإيقاف الحديث الديني بالأسواق والطرقات العامة يقع على عاتقها مسؤولية الإرشاد الديني ، وكان الأولى بها بدلًا من أن تأمر بالإيقاف أن تقف بجانب هؤلاء الدعاة المتطوعين وتحفزهم لوجستياً (ماديا ومعنويا ) وتهيئ لهم الأماكن ليقوموا بواجب تبليغ الدعوة إلى الله أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وتصحيحاً للمفاهيم الخاطئة عن الإسلام ورفعاً للوعي المجتمعي وتثقيفاً وتعليماً وتربيةً للمجتمع والأجيال .

*على استحياء*

المعروف لدينا في عالم الصحافة خاصةً الأخبار والأحداث الجديدة ان يتم إعلانها عبر مؤتمر صحفي أو تعميم صحفي يوزع على كافة وسائل الإعلام أو عبر إذاعة الخبر عبر مواقع الدولة الرسمية الإذاعة والتلفزيون ووكالة السودان للأنباء . ولكن المتابع لحيثيات إيقاف الحديث الديني بالأسواق والطرقات العامة يجد أنه لم يخرج للناس عبر أيٍّ من هذه الوسائل ! . فقط مجرد صورة خطاب انتشرت عبر وسائط التواصل الاجتماعي صادر من وزارة الإرشاد والأوقاف معنون لوزير ديوان الحكم الاتحادي .

ومن المعلوم في عالم الحكم والإدارة أن متخذ القرار – أياً كان منصبه وموقعه وصفته – يُصدر قراره بعد تأنٍ ودراسة عميقة ومعرفة من المستفيد ومن المتضرر من هذا القرار وبعد اطلاعه على آراء الجهات المنوط بها القرار لمعرفة رأيهم حوله ، ومع كل هذا فالبلاد في مرحلة حوار وطني ومجتمعي ، وينبغي أن تناقش كل القضايا بأسلوب الحوار الهادف والبنَّاء ، لا أسلوب القمع والتغييب وتكميم الأفواه وسياسة الغابة ، ولكن الذي أصدر القرار أهمل الجميع وصار يبرر ويدافع عن قراره بحجج واهية ربما لا يستطيع أن يقنع بها نفسه ! .

*فلاش باك*

في بحر السبعينيات من القرن الماضي ؛ تقدَّم فضيلة الشيخ مصطفى أحمد ناجي نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان آنذاك بمقترح لقيادة الجماعة بابتكار أسلوب جديد لتبليغ الدعوة إلى الله ، وذلك عبر إقامة الدروس والندوات والمحاضرات وحلقات العلم في الأسواق والأماكن العامة وأمام دور السينما والتجمعات ، وعدم اقتصارها على المساجد ، ولم يكن معهوداً من ذي قبل ممارسة هذا الأسلوب ، وأجمعت قيادات الجماعة على أهمية وضرورة هذا المقترح وتنفيذه .

وكان المجتمع السوداني آنذاك غارقاً في أمية دينية وعلمية سحيقة ، والبدع والشركيات والاعتقاد في البشر والشيوخ والجهل يحيط بالناس من كل مكان ، وقلب الأمة وعمودها الفقري كان منشغلاً بالسينما وشرب الخمور والانتظار في صفوف بيوت الرايات الحُمر ! ، والمساجد تشكو الفراغ وتصدح مآذنها خمس مرات في اليوم والليلة ولا يستجب إلا القليل .

من هنا نبعت فكرة جماعة أنصار السنة بابتكار أسلوب الحديث الديني بأماكن التجمعات العامة ، وقوبل هذا الأسلوب بعبارات الثناء والمدح من الجميع – حكومةً وشعباً – وكان الناس يتعطشون لأيام الحلقات والدروس والمناظرات ليسمعوا (قال الله سبحانه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وفي نهاية الحلقة والدرس يجيب الشيخ المتحدث عن أسئلة الحضور ، فيعم العلم وينقشع الجهل وتنتشر المعرفة وتتوسع دائرة الوعي وتطمئن القلوب وتسكن الأفئدة ليُعبد الله وحده لا شريك له .

وعلى الرغم من العداوة والأذى الذي وجده الدعاة الأوائل من البعض ، استمر أسلوب الحلقات ردحاً من الزمان وتوسعت مواقعه ، وأصبح الحديث الديني في الطرقات والأسواق ثقافة وعلامة وسنة حسنة سنتها جماعة أنصار السنة المحمدية ، وقلدها آخرون وساروا على دربها .

وكان من أشهر الحلقات حلقة السوق الكبير بوسط الخرطوم ، ثم حلقة أم درمان ، وازداد عدد المتابعين للحلقات وتقدم عدد من أبناء ولاية الجزيرة وكانوا يتابعون هذه الحلقات بطلب للجماعة أن يقيموا مثل هذه الحلقات بقراهم ومناطقهم بولاية الجزيرة ، واستجابت الجماعة لهم وأرسلت الدعاة وسيَّرت القوافل الدعوية ، وتم تعميم هذا الأسلوب على ولايات البلاد المختلفة .

*مخالفة للدستور*

متخذ القرار تعارض قراره مع نصوص واضحة لدستور جمهورية السودان الحالي ، إذ يكفل الدستور حرية التجمع والتنظيم وتنص المادة (40)ـ الفقرة (1) ” يُكفل الحق في التجمع السلمي” . كذلك يكفل الدستور حرية التعبير وتنص المادة 38 ـ ” لكل إنسان الحق في حرية العقيدة الدينية والعبادة ، وله الحق في إعلان دينه أو عقيدته أو التعبير عنهما عن طريق العبادة والتعليم والممارسة أو أداء الشعائر ” .

بجانب هذا يدعو الدستور لترقية ونشر قيم الطهر والعفة والفضيلة ومحاربة الفساد الديني والاجتماعي وتنص المادة (16) الفقرة ـ (1) على : ” تسن الدولة القوانين لحماية المجتمع من الفساد والجنوح والشرور الاجتماعية وترقية المجتمع كله نحو القيم الاجتماعية الفاضلة بما ينسجم مع الأديان والثقافات في السودان ” . وكل هذه القيم ينادي بها الدعاة المصلحون في الحلقات وفي الدروس والمحاضرات .

*علاج أم ظلم ؟!*

أتفق مع قول البعض إن هناك مخالفات يسيرة يقع فيها بعض المتحدثين في الحلقات ، والكل يعرف مَنْ هؤلاء ومن الذي يقف خلفهم ومتى ظهروا ، وليس عسيراً على وزارة الإرشاد أن تخاطبهم وتمنعهم من الحديث بهذا الأسلوب ، ولكن أن يتم إيقاف كل هذه المنابر العامة بجريرة نزر يسير برزوا لهذه الساحة في الأعوام الأخيرة ، فهذا لعمري لهو الظلم والجور ومعول هدم للإيجابيات التي جناها المجتمع وهي لا تعد ولا تحصي وفوق ذلك فهي إيقاف لأعظم ما ميَّز الله به هذه الأمة المحمدية .

*إعادة النظر*

الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، فيا متخذ القرار خيرٌ لك وللإسلام وللدعوة الإسلامية أن تعيد النظر في هذا القرار ، حتى لا تحرم الشعب السوداني من سماع كلمة الحق وتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبصير المسلمين بأمور دينهم ، وحتى لا تُحجِّر واسعاً ؛ فالدعوة إلى الله منهج حياة ، لا ينبغي حصرها في المساجد فقط ، وإلا فإنك قدمت للعلمانيين

بقلم / عمر عبد السيد

Exit mobile version