الوجود الاجنبي في السودان.. الفوبيا .. والأكزنوفوبيا

إنتشرت في مواقع التواصل الإجتماعي شنشنة ما أضرها على الناس وما أقبحها ، وهي المبالغة في التخوف والحذر من الوجود الأجنبي ، سواء أكانوا مهاجرين أم لاجئين ، وذلكم بالمبالغة في تصويرهم سبباً للجريمة والتهديد للآداب العامة وللحط من كرامة المواطنيين ، وكل ذلك موغل في المبالغة ، وهو مؤشر إلى تحول إجتماعي مناقض للمعتاد من خلق الشعب السوداني في الترحاب بالمهاجرين واللاجئين وإنزالهم سهلا وضمهم أهلاً. بيد أن الذي يقلل من الخوف من هذه الظاهرة هي حقيقة أن مواقع التواصل الإجتماعي لا تعبر تعبيراً صادقاً عن واقع حال المجتمع ، فهي جانحة دائما نحو المبالغة وإلقاء القول على عواهنه بغير تثبت ولا تحقق.

ماهي الفوبيا :

عادة ما يُعرب المعربون مفردة فوبيا الأجنبية إلى (رهاب) وهو تعريب كما هو الأمرالمعتاد غير دقيق . فالفوبيا في أصلها اللاتيني تعود للكلمة (PHOBOS) التي تعني الخوف غير المتناسب وغير العقلاني ، أي الخوف المرضي من كائن أو مخلوق أو وضع أو حالة معينة ، كأن يخاف أحد الناس من الصراصير، ويخاف الآخر من الظلام . وهو نمط من الخوف يقترن بالبغض والكراهية. وأما كلمة رهب أو رهبة فهو تعنى شعور من الخوف يمازجة الإجلال . ومنها الراهب وهو معنى الآية “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ويمكن الإستدلال بخطاب المولى سبحانه وتعالى لموسى (واضمم إليك جناحك من الرهب) ففي موقف الرهبة ذلكم في الحضور الجليل أ ُمر موسى لكي تهدأ نفسه أن يضم يده إلى عضده ليهدأ فى مقام الجلال .
وكلمة رهبة ورهب ظلت محلاً لإساءة التفسير، فمرة تُنسب إلى الإرهاب وما يعنونه هو الترويع والإرعاب . ومرة تنسب إلى الفوبيا وما يعنونه هو الخوف الممزوج بالكراهية لا الخوف الذي يمازجه الإجلال والتعظيم. وأما الفوبيا فهي مرض نفسي يتفاوت في درجاته . وعند الرجعى للدليل التشخيصي للأمراض العقلية الصادر عن جمعية الطب الأمريكية نجد أنه قد جرى تصنيف الفوبيا إلى أنواع . أولها رهاب الحيوان Zoophobia مثل فوبيا العناكب وفوبيا الفئران، وثانيها فوبيا البيئة أو الطبيعة مثل فوبيا المرتفعات أو الرعد أو البرق . وهناك فوبيا من أوضاع وأحوال مثل الفوبيا من الظلام أو الأماكن المغلقة أو المزدحمة أو الطيران ، وهناك فوبيا من رؤية الدم وفوبيا من رؤية المرضى، أما أخطر أنواع الفوبيا فهي تلكم الفوبيا الاجتماعية . وهي المتمثلة في الخوف من التعامل مع الآخرين وبخاصة أولئك البعداء والأجانب. وهي فوبيا خطيرة لأن جوهر الإنسان أنه كائن إجتماعي ، فهو خوف مرضي يصيب الإنسان في أخص خصائصه ، ويحرم المجتمعات من التواصل والتعارف والتراحم. وقد حاول العلماء تفسير نشوء هذا الخوف المرضي بنظرية بافلوف . وذلك بإقتران الحدث المفرح أو المخيف مع البيئة أو الظرف الذى يقارنه. وكما يقول عالم النفس البريطاني رتشمان أنه عندما يتعرض شخص لصدمة كهربائية على سبيل المثال في مكان معين فإن الخوف لا يكون من مصدر الصدمة الكهربائية فحسب بل أيضا من المكان الذي حدثت فيه الصدمة . كذلك فإن الخوف المرضي قد يسري إلى النفوس بالتلقين ، فإذا رأى الطفل أمه تصرخ عند رؤية العناكب ويتكرر ذلك أمامه مرة بعد مرة فإن خوفها المرضي من العناكب ينتقل إليه وينمو معه لا يفارقه حتى يصير رجلاً.
الإكزنوفويا Xenophobia:

والاكزنوفيا هي الخوف والكراهية للأجانب . وهي أخطر أنواع الفوبيا الإجتماعية . وغالباً ما تخالطها روح عنصرية أو تعصب ديني أو تأفف طبقي . ويؤجج مثل هذه المشاعر إقتران بعض الأحداث أو المظاهر غير المستحبة بأجانب ، ربما ليس بسبب كونهم أجانب بل بسبب الفقر مثلا ، فلأنهم لاجئون فقراء تكثر نسبة الجريمة في أواسطهم أويكثر تعاطي الخمور الرخيصة أو المخدرات . وبهذا تتدثرالأكزنوفوبيا بدثار كراهية الجريمة والفوضى ، وإنما سبب الكراهية هو الوجود الأجنبي في ذاته. ولأن كل إنسان أجنبي هو إنسان فى غير بيئته فهو الجارم وهو الضحية في ذات الوقت، وكثير من الناس يشكون من التحيز والفوبيا ضد الأجانب ويمارسونها وقد يدعون لها، ثم أن ثقافة الجمهرة تشيع تلكم الصرعة فتنتشر مثل الوباء ، ونقصد بثقافة الجمهرة ثقافة المجموعة التي لا تتثبت ولا تتفكر ، بل تستدل على صدق الأمر بدلالة أن جمهور الناس يؤمن به ويتناقله ، وكأنه الحقيقة التي لا يماري في صدقها أحد.ولذلكم قال صلى الله عليه وسلم (بئس مطية القوم زعموا ) وقد زادت تلكم الآفه من خلال تطور تكنولوجيا المعلومات والإتصالات التي أدى سوء الإستخدام لها من خلال وسائط التواصل الإجتماعي إلى نشر أكاذيب كثيرة وإشاعة مشاعر سلبية قد تؤدي إلى القطيعة بدلا من التعارف الحق والتواصل الإنساني الرحيم.
ولا شك أيضاً أن ما يشهده العالم من تنام سريع لروح الفردية رغم توفر وسائل ووسائط التفاعل الإجتماعي لأمر يدعو للقلق، فالإخلاق الإجتماعية في إنحسار سريع ونعني بها أخلاق التواصل الإنسان والتراحم الإنساني بإزاء شح الأنفس وشرهها وثقافة التكاثر من الأموال والأشياء ، وإن كان لا ينتفع بها صاحبها . ويكفى مثالا لذلك ما أعلن أخيرا في منتدى دافوس من أن ثمانية أفراد من المليارديرات يملكون نصف أموال العالم أي نصف الأصول المالية في العالم يملكها أشخاص لا تعدهم أصابع اليدين، وهذه النزعة وإن كانت شديدة الإستشراء في أمريكا وفي أوروبا فهي موجودة بأقدارٍ تدعو للقلق في أوطاننا التي ظلت تتفاخر بإغاثة الملهوف وإكرام الضيوف ويقول شاعرها :
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
فأين نحن اليوم من ثقافة الأسر الممتدة والمجتمعات المتراحمة ، وها نحن في مهد جزيرة العرب مهد ذلك كله، مهد الكرم العربي ومهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعطي ولا يخاف الفقر، يعطي عطاء الريح المرسله ههنا يشيع هشتاق يتجاوب معه مئات الآلاف يقول “ترحيل الأجانب مطلب وطني” ، وأما في السودان الذي كان يتفاخر أهله بأريحيتهم وحبهم للضيف حتى يقول شاعرهم ود الفراش:
بدور إلبل بدور غنم السعية
بدور أنهم بخيت للضيف عشية
بدور قدحاً يكفي التلتمية
هذاالسودان الذي فتح حدوده للمهاجرين واللاجئين حتى صار مثلاً يضرب للترحاب بالأجانب ولإغاثة ملهوفهم وإعانة ذوي الحاجات منهم ، تنشر هشتاقات “الفسالة” والحذر من الأجانب .أو ليس ذلك مؤذن يتحول إجتماعي يتوجب منه الحذر؟ لا أحد من الناس يدعو لفتح الأبواب على مصاريعها بغير قانون منظم أو قواعد ضابطة لتدفق الأجانب للبلاد. ولا بد من مراجعات دقيقة لقوانين الهجرة واللجوء لتتحقق سيادة قانون منظم لأحوال الوجود الأجنبي ، ولتوصيف المجالات التي يمكن للأجانب العمل بها توقياً لمحاذير أمنية أو غيرها فكل البلاد تفعل ذلك حرصا على مصالح المواطنين وضيوفهم الوافدين.

الأكزنوفوبيا والسياسة:
ولأن مخافة الأجانب وتجنبهم أصبحت صرعه سائدة في غالب أرجاء العالم ،فقد صارت هذه الفوبيا إستثمارا جيداً لأهل السياسة والإعلام . فالأولون يزايدون على جمهور الناس بخطاب يؤجج مشاعر الفوبيا والأكزنوفوبيا ، وقد رأى الناس كيف أدى الخطاب السياسى فى أمريكا إلى أحداث كراهية للمسلمين هنالك تمثلت فى مضاعفة الأعمال العدائية عليهم أضعافا مضاعفة ، وكيف أدت خطابات الأكزنوفوبيا إلى أحداث مؤسفة في فرنسا.
وقاد خطاب ملك الزولو إلى إعتداءات هائلة على المهاجرين الأفارقة في جنوب أفريقيا . وقد أصبحت قضية التعامل مع اللجوء والهجرة هي القضية الأولى في أية إنتخابات في أوربا وأمريكا وكندا وأصبحت مركزاً للسجال الإنتخابي يصعد بها اليمنيون المتشددون في غالب الأحوال. وأما وسائل الإعلام ووسائط الإتصال فهي الجارم الأول في نشر الفوبيا بما تشيعه من أخبار مزيفه أو مبالغ فيها ، أو بتركيزها على حدث تافه (كمحاولة شخص غاضب طعن شخص آخر لسبب غير معلوم ) فيصبح ذلكم الحادث حدثاً إرهابياً عالمياً بخاصة إذا ما أقترن بإسم عربى، ذلكم أن ثقافة “البريكنح نبوز” أصبحت هي الوسم المميز للآداء الإعلامي الذي بات يفقد التزاماته المهنية والأخلاقية شيئا فشيئا، ولا شك لدى أن الإعلام الذي هو المتهم الأول في إشاعة الإكزنوفوبيا بإمكانه إستدراك ما أقترفت يداه وذلكم بالعوده إلى أمر رشد في تغطياته وبرامجه يستهدف علاج هذا الداء الذي هو قمين بمنظمة الصحة العالمية أن تعلن في مواجهته حالة التأهب القصوى. فالفوبيا مرض سريع الإنتشار مثل إنفلونزا الخنازير أو مرض السارس أو إنفلونزا الطيور ،بل هو أكثر خطراً وأكبر ضرراً . ولعله أول الأمراض العقلية التي تنتقل كما تنتقل الأوبئة لا عن طريق الطيور أو البعوض ، بل عن طريق وسائل ووسائط التواصل البشري عبر الأثير أو عبر الإسفير…

د/ أمين حسن عمر

Exit mobile version