كيف تحمي وكالات الفضاء روادها من الإصابة بالجنون؟

عندما بدأ السباق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لغزو الفضاء إبان الحرب الباردة، كان بعض العلماء يظنون أن الحياة في الفضاء قد تفوق طاقة البشر. فهل يمكن أن يتحمل البشر المكوث في بعثات فضائية قد تمتد لسنوات؟

في الأيام الأولى لسباق الفضاء، خُيّل للأطباء النفسيين بسلاح الجو الأمريكي أن من يتقدم لمنصب رائد فضاء يجب أن يكون “طائشا، أو انتحاريا، أو غير سوي جنسيا، يستمتع بخوض المخاطر”.

وأرجع الأطباء ذلك إلى أن ما من شخص يسمح لأحد بأن يقيده بمقعد في صاروخ باليستي عابر للقارات، ثم يُطلقه نحو مدار الكرة الأرضية، إلا إذا كان مجنونا أو متهورا أو باحثا عن الملذات.

بالطبع لم يكن رأي الأطباء النفسيين صائبا بسبب قلة معرفتهم بالفضاء، وتأثرهم بقصص الخيال العلمي. فلولا رباطة جأش رواد الفضاء بوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” ومهارتهم الفنية وقوة تحملهم بدنيا ونفسيا، لما نجحت الوكالة في الهبوط ست مرات على سطح القمر، ولما تمكن طاقم بعثة أبوللو 13 من النجاة من الموت بأعجوبة.

ولكن لا يزال البعض يرون أن الخطط الحديثة الرامية إلى إرسال بعثات إلى كوكب المريخ في أواخر عشرينيات القرن الحادي والعشرين، وحتى التفكير في استعمار المريخ، ضرب من الجنون، وهذا لا يختلف كثيرا عن توقعات الأطباء النفسيين في خمسينيات القرن الماضي. فإن رحلات الفضاء لن تكتمل من دون مسّ من الجنون.

في بحث نُشر عام 2011، في دورية “إنديفور”، كشف ماثيو هيرش، المؤرخ الفضائي بجامعة هارفارد، عن المخاوف التي أُثيرت بشأن جنون رواد الفضاء الأوائل.

كان رواد الفضاء الأوائل يُختارون من بين الطيارين الذين اختبروا تقنيات الطيران على متن الطائرات النفاثة السريعة

وذكر هيرش أن جورج راف، وإيد ليفي، الطبيبين النفسيين بسلاح الجو الأمريكي لدى وكالة ناسا، كانا يخشيان من أن يكون المتقدمون لخوض الاختبارات الخاصة باختيار من يُطلق عليهم اسم “طياري الاختبار”، ما هم إلا “مجموعة من محبي خوض المخاطر الذين يستخدمون الطائرات السريعة كوسيلة لتخفيف شعورهم بالعجز الجنسي،” على حد وصف الطبيبين.

ولكن في الحقيقة، عندما كانت وكالة ناسا تدرس تعيين أشخاص اشتهروا بقدرتهم على تحمل الضغوط، مثل متسلقي الجبال والمحاربين القدامى، لقيادة مركباتها الفضائية، لم تجد أفضل من طياري القوات الجوية، والبحرية، ومشاة البحرية الأمريكية، الذين تدربوا على هندسة الطيران ولديهم الخبرة الفنية، فضلا عن قدرتهم على الثبات عند الشدائد.

وبعد أن فحصت وكالة ناسا طلبات 500 من “طياري الاختبار”، وتاريخهم المهني، لم تختر منهم إلا 32 طيارا، والذين خرج من بينهم رواد الفضاء السبعة الذين شاركوا في مشروع “ميركيوري”.

وبسبب ما أثاره الطبيبان من مخاوف، خاض هؤلاء الطيارون الذين اختارتهم الوكالة برنامج تقييم نفسي موسع، للاطمئنان على صحتهم العقلية.

وفي عيادة “لوفليس” في مدينة ألبوكيرك بولاية نيومكسيكو، أمطر روف وليفي وطبيبان نفسيان آخران، الطيارين بوابل من الأسئلة عن حياتهم الشخصية وتاريخهم، ثم أخضعوهم لاختبارات لتقييم الشخصية، واللياقة، واختبارات أخرى لقياس قدراتهم الإدراكية عند تعرضهم للعزلة، والضجيج، وبعض “المنغصات” الأخرى.

قال هيرش لـ بي بي سي فيوتشر: “فحصت وكالة ناسا المتقدمين للالتحاق ببرنامج رواد الفضاء على مدار يومين في المرحلة الأولى عام 1959، ولكنها لم تكن تعرف تحديدا ما هي نقاط الضعف التي تبحث عنها”.

إلا أن نتائج الاختبارات دحضت نظريات الطبيبين، فقد ثبت خلو المنتسبين الجدد من أي اختلال عقلي، أو عصبي، أو اضطرابات في الشخصية.

ضرب رواد الفضاء السبعة الذين شاركوا في مشروع “ميركوري” مثالا رائعا لكيفية إتمام البعثات المليئة بالتحديات بهدوء ورصانة

يقول روجر لونيوس، مؤرخ الفضاء السابق بمعهد “سميثونيان” بالعاصمة الأمريكية واشنطن: “لم يكن طيارو الاختبار متهورين، ولم يلقوا بأنفسهم في المهالك، بل كانوا يقدّرون العواقب ويبنون قراراتهم وفقا لها. وفي بعض الأحيان، كانوا يُصرون على إجراء تغييرات في المركبات الفضائية للحد من المخاطر”.

بالطبع كان لانعدام المعلومات عن الفضاء الخارجي أثرٌ في إذكاء المخاوف لدى الأطباء النفسيين. ففي فبراير/شباط 1959، عندما بدأت الاختبارات الطبية والنفسية لرواد الفضاء، لم يكن قد سافر أحد بعد إلى الفضاء الخارجي، وكان الناس يستقون معلوماتهم عن الفضاء من روايات وأفلام الخيال العلمي، والتوقعات المخيفة في بعض الصحف.

ويقول هيرش إن فكرة أن البشر يمكنهم أن يسافروا في الفضاء، ولا يصابون بصدمة إثر الضغوط التي يتعرضون لها في رحلتهم، لم تجد قبولا لدى عدد كبير من كتاب السيناريو، الذين كانوا يتوقعون أن تُخرج الرحلة الفضائية بشرا غريبي الأطوار.

على سبيل المثال، في فيلم “تجربة كواترماس” في عام 1953، ينطلق صاروخ إلى الفضاء وعلى متنه ثلاثة رواد فضاء، يموت اثنان منهم ويعود رائد فضاء واحد وقد تحول إلى سفاح متعطش للقتل، بسبب تواصله مع كائنات فضائية بطريقة ما في المدار الأرضي.

وفي فيلم “غزو الفضاء” سنة 1955، تواجه رحلة إلى المريخ مخاطر عديدة بسبب قائدها الذي استبد به القلق من الفضاء، واستحوذت على عقله حالة من الهوس الديني، مُعرضا طاقم المركبة بأكمله للخطر.

ويقول هيرش إن الخوف من الرحلات الفضائية آنذاك بلغ حدا جعل فيرنر فون براون، مصمم صاروخ ساتورن 5، يضطر إلى تهدئة مخاوف البعض من اصطدام الصواريخ بالملائكة، أو إثارة غضب الله، على سبيل المثال.

لكن من جهة نظر أخرى، يقول لونيوس: “تذكر أن الرحلات الفضائية كانت جديدة تماما، وكان لزاما على الأطباء المكلفين بالبحث عن الاضطرابات النفسية أن يثيروا كل المشاكل التي يعتقدون أنها قد تؤثر سلبا على نجاح البعثة”.

ويتابع لونيوس: “يمكنني أن أتفهّم الآن لماذا ظن الأطباء النفسيون أن رواد الفضاء طائشون، على سبيل المثال، ولكنني أرى أن تقييمهم كان خاطئا، لأننا شاهدنا مرارا رباطة جأش رواد الفضاء في الظروف العصيبة، وكيف تصرفوا بحكمة منذ أول رحلة فضائية عام 1961”.

حتى الأن لم تتعد أطول البعثات الفضائية شهورا في المحطات الفضائية مثل محطة الفضاء الروسية “مير”

ومع حلول القرن الحادي والعشرين، ربما تغير مفهوم التبعات النفسية لاستكشاف الفضاء، ويعزى ذلك إلى طول المدة المقترحة لبعثات المريخ والمستعمرات التي ستقام على سطحه، وإن كانت لا تزال موضع نقاش مستمر.

وفي سبتمبر/أيلول 2016، على سبيل المثال، قالت شركة “سبيس إكس” لإطلاق الأقمار الصناعية ونقل الشحنات إلى محطة الفضاء الدولية، في كاليفورنيا، إنها ستتمكن من نقل مئة شخص إلى كوكب المريخ في كل رحلة، على متن أكبر صاروخ على وجه الأرض، ليتكاثر الناس هناك، ويقيموا حضارة مستقلة بذاتها على سطح المريخ.

إلا أن الشركة حذرت من أن احتمالات الموت ستكون مرتفعة، ولا سيما في البعثات الأولى.

أما في هولندا، فقد ذهبت مؤسسة “مارس وان” إلى حد أبعد من ذلك، إذ أنها لن تسمح لمستعمري المريخ بالعودة إلى كوكب الأرض، في الرحلات التي أعلنت أنها ستكون ذهابا بلا عودة. وسيقضي هؤلاء البشر الأيام المتبقية من حياتهم على كوكب المريخ، وستوثق حياتهم لحظة بلحظة برامج تليفزيون الواقع التي تأمل شركة “مارس وان” أن تسهم في تمويل نفقات البعثة.

ورغم ذلك، بعض الناس متحمسون للمشاركة في هذه البعثات، ويقول نوربيرت كرافت، الطبيب النفسي في مجال الفضاء، وكبير المستشارين الطبيين في شركة “مارس وان”، إن الشركة قد قطعت شوطا طويلا بالفعل في عملية اختيار أول طاقم للبعثة.

ولكن لماذا تعد تلك التطلعات لاستيطان المريخ ضربا من الجنون؟ أولا، لأن أفراد الطاقم عليهم البقاء على متن الصاروخ في رحلة قد تمتد لستة أشهر، والصمود أمام الحرارة المرتفعة عند اختراق الغلاف الجوي، وتحمل هبوط الصاروخ على أرجله الطويلة والرفيعة.

وثانيا، عليهم أن يتدبروا أمور معيشتهم على كوكب قاحل، تصل فيه درجة الحرارة إلى درجة التجمد، وتمطره الإشعاعات، وتغطي سطحه الأتربه، فضلا عن أن كوكب المريخ خال من الهواء، وتنخفض فيه الجاذبية إلى حد قد يضر بالعظام، ولا تنمو فيه الثمار، وتندر فيه المياه. ولهذا، قد لا يكون كوكب المريخ هو الوجهة الأفضل.

لا يصلح سطح كوكب المريخ للعيش، رغم أنه من المفترض أن يكون الموطن الجديد لرواد الفضاء

ومرة أخرى، ستمثل الاختبارات الشخصية عاملا حاسما في اختيار مستوطني المريخ. ويقول هيرش: “ربما تبدو بعثات المريخ التي ستستغرق سنوات عديدة أمرا جديدا تماما، ولكننا لدينا خبرة كبيرة في اختيار أفراد طواقم يمكنهم تحمل السفر الذي يستغرق فترات طويلة، مثل أفراد طواقم الغواصات أو قاذفات القنابل، الذين تستغرق رحلاتهم سنوات أحيانا”.

ويختار كرافت في شركة “مارس وان” أفراد طاقم البعثة من الجمهور، وليس من الوحدات المعنية بتدريب رواد الفضاء، واختيارهم للمشاركة في البعثات الفضائية لوكالات الفضاء العالمية.

واستند كرافت في اختياره إلى خبرته في مراقبة برنامج محاكاة بعثة فضائية في اليابان، وبرنامج محاكاة رحلة فضائية في مبنى منعزل في موسكو.

وفي اليابان، دُهش كرافت حين استُبعد أحد المرشحين البارزين لشغل وظيفة رائد فضاء بمحطة الفضاء الدولية، رغم أنه أحرز أعلى النقاط في الاختبارات والمقابلات.

ويقول كرافت: “لم يكد هذا المرشح يدخل نموذج محاكاة المركبة الفضائية حتى نأى بنفسه عن الأخرين، وظهرت لديه مشاكل أخرى، ولهذا أحرز أدنى النقاط من بين مجموعة المرشحين للمنصب، إذ تتكشف السمات الشخصية للمرء بمجرد أن يدخل في بيئات منعزلة”.

أما في موسكو، فقد قدم المشاركون نموذجا صارخا لصدام الحضارات. إذ انزعج بعض المرشحين حين رأوا البعض الآخر يشاهدون أفلام إباحية على أجهزة الكمبيوتر، وأخذوا يوسعون بعضهم بعضا لكما حتى سالت الدماء منهم، وهذه السلوكيات كانت صادمة للمشاركين الأكثر تحضرا في تلك الاختبارات.

ويقول كرافت: “من المهم أن تجمع خليطا متجانسا من مختلف الثقافات والخلفيات الاجتماعية. فليست المشكلة في البيئة، بل في الأشخاص أنفسهم”.

أما في البعثات التي ستذهب ولن تعود، مثل رحلة “مارس وان” المقترحة، فيقول هيرش: “العبرة باختيار أُناس بلا خصال شخصية محددة. وكلما زادت بلادة مشاعر الشخص، زادت فرصه في النجاح”.

ولكن هل سينجح أشخاص مثل هؤلاء في استقطاب مشاهدين لبرنامج تليفزيون الواقع الذي سيذاع من كوكب المريخ؟ هذا ما سيتضح بمرور الوقت.

BBC

Exit mobile version