(مزيج النيل).. ما لا يفهمه هؤلاء!

{ أعجب للذين يرقصون بأقلامهم على صفحات الجرائد والوسائط هذه الأيام، يدبجون المقالات الطويلة ويحدثون الناس عن تشييع حزب (المؤتمر الوطني) والحركة الإسلامية إلى مثواهما الأخير، وأن السلطة قد دانت بالكامل للعسكريين، وأن كوادر (الإسلاميين) الباقية في فلك السلطة، رضيت بالغنائم من المال وهوامش المناصب والأسفار، وانتهى الأمر!!
{ إذن علام أنتم مستفزون؟!
{ ألم تكن هذه رغباتكم وأمانيكم وأحلامكم وأضغاث أحلامكم.. أن يسقط حكم (الكيزان) وأن (يغوروا في ستين داهية..)؟!
{ ولكن قبل أن تدلقوا أحبار (الغبينة) على الورق وتدوسوا على (الكيبات) المرهقات.. اقرأوا التاريخ جيداً.. وتبينوا أن أعظم جنرالات الجيش السوداني بقيادة الفريق “إبراهيم عبود”، وبكل طهارة أيديهم، وعظم إنجازاتهم، وسطوتهم الداخلية وعلاقاتهم الخارجية، لم يحكموا السودان طويلاً.
{ ربما شاهدتم فيديو استقبال الملكة “إليزابيث” للرئيس الفريق “إبراهيم عبود” في “لندن” وكان إلى جوارها يجلس في شمم على ظهر عربة مكشوفة يطوفان شوارع عاصمة الضباب، مَن مِن رؤساء السودان أتيح له ما أتيح للفريق “عبود” من كرم بريطانيا إلى المعونة الأمريكية؟!
{ كان جنرالاً عظيماً.. وكانت فترة حكمه زاهية وزاهرة، أنشأ تلفزيون السودان وبنى المسرح، وعبّد الطرق، وأقام الكباري، لكنه ومجلسه العسكري الأول والثاني، لم يحكموا سوى (6) سنوات قلائل من عمر شعب السودان المديد.. لماذا؟!
{ ببساطة.. لأن أية سلطة (عسكرية) صرفة، لا تتحقق لها عوامل الاستقرار في الحكم إلا بالاستناد إلى قاعدة (سياسية) صلبة، وهو ما لم يتوفر لسلطة (17) نوفمبر 1958م، وهو ما توفر حتى يومنا هذا لدولة (الإنقاذ) منذ العام 1989م.
{ لقد حكم الجنرال “جعفر نميري” لعامين من 1969 إلى العام 1971م، مستنداً إلى الحزب الشيوعي السوداني وقوى القوميين العرب، ولما انقلبوا عليه، وانقلب عليهم بعنف مفرط فأحالهم إلى منصات الإعدام والسجون، تاهت مراكب (مايو) لست سنوات، واستمر “النميري” يحكم البلاد مدعوماً بمجموعات (يسارية) متفرقة من المنشقين على الحزب الشيوعي وأحزاب اليسار تحت مظلة (الاتحاد الاشتراكي)، ولكن حكمه لم يسلم من توالي الانقلابات عليه، والاجتياحات المسلحة كما حدث في يوليو 1976م، حتى صالح عدداً من أحزاب المعارضة وتحالف معها في العام 1977م، وتقدم (الإسلاميون) المصالحة بقيادة الدكتور “حسن الترابي”.
{ ولما انقلب المشير “نميري” على “الترابي” وجماعته، مطلع العام 1985م وألقى بهم في غياهب السجون، انكشف ظهره، فسقط حكمه سريعاً في (أبريل) من ذات العام.
{ راجعوا التاريخ.. وتعلموا منه.. واعلموا جميعاً أنه في قضايا الوطن المصيرية.. ينبغي ألا يمارس الراشدون (الشماتة)، أو الانتقامات الذاتية البليدة لصالح المجهول.
{ بالأمس القريب.. احتشد آلاف (الأتراك) حول مبنى القنصلية التركية في مدينة “روتردام” الهولندية، احتجاجاً على منع طائرة وزير الخارجية التركي من الهبوط على الأراضي الهولندية لمخاطبة مواطنيه في إطار حملات تعبئة يقودها “أردوغان” لتعديل الدستور.
{ المعارضون لـ”أردوغان” سبقوا الموالين إلى قنصلية بلدهم الأم، غضباً لكرامة “تركيا”، رغم أنهم من حملة الجوازات “الهولندية”!!
{ يحتاج الكثير منا.. المناضلون والمتوهمون النضال.. أصحاب الجنسية الواحدة والولاء الواحد للسودان.. وأصحاب الولاء المزدوج والجنسيات المزدوجة أمثال “أتراك هولندا”.. نحتاج أن نتعلم دروساً أعمق في معاني الوفاء للوطن.. دروساً تتجاوز الطرب لأغاني الحماسة والعرضة فيها، والنشوة عند سماع روائع “الحقيبة”، هذا لا يكفي لتكون سودانياً كامل الوطنية.
{ هذا السودان لا يتأتى حكمه بواسطة طبقة عسكرية (مغلقة)، لو كان ذلك ممكناً لحكم الفريق “إبراهيم عبود” أربعين عاماً.
{ مزيج النيل (السياسي – العسكري) هو الخلطة السحرية الخاصة للحكم المستقر في بلادنا، وهذا ما لا تفهمه دول عربية وغربية من حولنا، وقد لا يفهمه بعض السذج.. وبعض الموتورين منا.. غفر الله لنا ولهم.

الهندي عزالدين – شهادتي لله
صحيفة المجهر السياسي

Exit mobile version