عبدالقادر محمد عبدالقادر العالم الذي فقدناه

هكذا هي الدنيا .. فقد كان عبدالقادر محمد عبدالقادر واحداً من قلة جمعتنا بهم دروبها ومسالكها ففرضوا أنفسهم علينا بقوة ذاتية لا تقهر ، أوتوها دون خلق الله في شكل صفات نادرة لم تتوافر لغيرهم من فقراء الروح ومطموسي البصر والبصيرة ..نعم فرضوا أنفسهم علينا لأننا لا نملك أن نقاوم السحر المكنون في شخصياتهم الفذة فقد تسللوا إلى قلوبنا عنوة واقتدارا وانسربوا بين الأضلاع والحنايا ليحتلوا مكاناً عليا في نفوسنا العطشى لأمثالهم ممن يمنحون عافية للأجساد المنهكة والأرواح المتعطشة للقيم والمعاني العظام.

غادرنا فجأة بدون أن نعد العدة لتلك اللحظة الفاجعة ..غادرنا مثل أحبة آخرين دون وداع فقد كنا والله العظيم في شوق إلى أن نلتقي به مرات ومرات تتعانق فيها الأرواح المؤتلفة والمتحابة لنضحك ونفرح ونستعيد أياماً بهيجات تسامرنا خلاها وتثاقفنا وتعلمنا وتواددنا وتحاببنا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.

نعم رحل شقيق الروح عبدالقادر دون وداع ونزل الخبر علينا كالصاعقة لأنه سافر لمعالجة غضروف أرقه وخرج من مشفاه معافاً في انتظار أن يعود إلى السودان فإذا بالموت يفجعنا برحيله فهل ترانا نعتبر أم تمر علينا المصيبة كما مرت مثيلات لها سابقات ؟

جاءنا في سنوات اغترابنا في أبوظبي في نهاية سبعينات القرن الماضي ولم يمر وقت طويل أو قل سنوات قليلة على إنشائه مختبر رقابة الأغذية في تلك الدولة حتى فرض نفسه على الساحة وأخذ الإعلام يتبارى تنافساً على متابعة أخباره فملأ الدنيا وشغل الناس وهز أركان الشركات الأوربية التي كانت تسرح وتمرح دون رقيب أو حسيب وهي تملأ الأسواق الخليجية المترفة بمنتجاتها الغذائية غير الخاضعة للرقابة.

سأضرب مثلاً لإنجازاته الكبرى في الحفاظ على ما يحفظ حياة الناس ومكافحة التلاعب بأقواتهم وغذائهم بقضية لبن النيدو الشهيرة حيث أوقف د. عبدالقادر الشركة المصنعة له بعد أن وجد اختلافاً وخرقاً واضحاً للمواصفات القياسية ظلت الشركة العالمية ترتكبه في كل دول الخليج العربي بل ومعظم دول العالم وليس دولة الأمارات لوحدها فثارت ثائرة الشركة ووكيلها المحلي المتضرر من قرار الإيقاف بعد أن فشلت في إثنائه بالترهيب وكذلك بالترغيب الذي كشف عظمة الرجل فقد أغري برشوة بلغت خمسة ملايين من الدولارات لكنه رفضها واستعصم في شمم بعد أن فضح صنيع تلك الشركة المتجاوزة.

بعدها أخذت الشركات العالمية تأخذ أمر المواصفات القياسية التي يحددها د.عبدالقادر مأخذ الجد وتوقف الفساد والتجاوز والتلاعب في أسواق منطقة الخليج بعد أن علموا أن البلاد لم تعد كسابق عهدها إنما أصبحت محروسة بعين لا تنام من عالم نحرير لن تنطلي عليه ألاعيب وتجاوزات أولئك المتوحشين.

هل أتحدث عن عبدالقادر الخلوق اللطيف الظريف (أخو الأخوان)، أم أتحدث عن عبدالقادر الداعية الذي بذل في سبيل دينه، أم عن عبدالقادر العالم العالمي الحاصل على شهادة الفيزيائي القانوني )(chartered scientist) من معهد علوم وتكنولوجيا الأغذية البريطاني

فبعد أن تخرج في جامعة الخرطوم ابتعث إلى بريطانيا حيث نال الماجستير والدكتوراه وسيطول هذا المقال لو عددنا الشهادات العالمية التي نالها والأوراق العلمية التي قدمها في مختلف قارات العالم بما فيها أوروبا.

بعد عودته إلى السودان بعد اغتراب منتج رفع فيه رأس المغتربين السودانيين في دولة الأمارات كان له سهم وافر في إنشاء هيئة المواصفات والمقاييس وعندما غادرها بعد تحرك مراكز القوى من الفاسدين المتضررين من وجوده كتبت مقالاً في الانتباهة ، وكنت وقتها مديراً للتلفزيون ، بعنوان :(رسالة إلى أعداء النجاح) قلت فيه ألا كرامة لنبي بين أهله وأنصفه القضاء وركل الفاسدين المفسدين ورد كيدهم إلى نحورهم.

كان عبدالقادر نسيج وحده حيث كان مهموماً كذلك بالدعوة الإسلامية التي تفرد فيها بمبادرات مختلفة فعلى سبيل المثال قام بدعوة الشيخ الداعية الشهير أحمد ديدات لإلقاء عدد من المحاضرات في دولة الأمارات العربية المتحدة وانفتح ديدات بعدها على منطقة الخليج ينشر الدعوة ويرسخ يقين المؤمنين ويزيد من استمساكهم بدينهم وكذلك قام عبدالقادر بدعوة آخرين أذكر منهم داعية أمريكي كان منصراً ثم اعتنق الإسلام لا أذكر اسمه وكان عبدالقادر عاملاً في مختلف أنشطة العمل الدعوي.

كذلك كان عبدالقادر ناشطاً في نشر الثقافة الغذائية بإلقاء المحاضرات وأذكر حادثة طريفة حيث قدم محاضرة للمصريات في (جمعية سيدات مصر) وقرعهن بسبب السمنة التي انتشرت بين النساء في مصر وقال لهن أن مثال المرأة المصرية أيام الفراعنة كانت الملكة (نفرتيتي) بقوامها الرشيق أما اليوم في القرن العشرين فحدث ولا حرج.

كانت له نظرات عميقة وأذكر أنه أجرى دراسة لطيفة عن الخسارة الناشئة عما يترك في قعر فنجان القهوة جراء الاستهلاك غير المرشد من المواطنين السودانيين المعروفين بصرفهم الزائد من السكر كما اهتم في السنوات الأخيرة بدراسة المنتجات الغذائية السودانية وقدم حولها عدداً كبيراً من المحاضرات.

ولد د.عبدالقادر عام 1945 بقرية وادي شعير وينحدر من أسرة ممتدة في طابت ووادي شعير وود راوة بولاية الجزيرة وتلقى تعليمه الابتدائي فيها ثم الوسطى في المدينة عرب ثم الثانوي في خورطقت ثم جامعة الخرطوم ثم بريطانيا.

لقد كان عبدالقادر كبيراً كبيراً وليت الدولة وأهل السودان يكرمون عالمنا النحرير بما يستحق من تقدير وليت القائمين على الأمر يبدؤون ذلك بإطلاق اسمه على إحدى قاعات مبنى هيئة المواصفات.

رحمه الله وأحسن إليه فقد هزتني وفاته والله العظيم خاصة وأني لم أكن أعلم بمرضه قبل وفاته.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة

Exit mobile version