أخي الرئيس حان الوقت لإرجاع الجنوب!!

أفسح اليوم المجال للكاتب النحرير.. السيد اللواء “عبد الهادي عبد الباسط”

{ ما كانت هنالك كارثة وقعت على رأس السودان فأدمته، وما كانت هنالك مصيبة أحلت بشعب السودان فأعيته، وما كانت هنالك حادثة فجعت البلاد والعباد فأذهلتهما، كما هي كارثة انفصال جنوب السودان وكما هي مصيبة انشطار دولة السودان وكما هي حادثة انقسام شعب السودان.
{ وقد استحقت هذه الحادثة بجدارة لا تنافس لفظ النازلة الأولى والكارثة العظمى والفجيعة الكبرى التي ينبغي تدوينها بذلك الوصف في دفاتر سجلات تاريخنا الوطني، متفوقة بفارق كبير عن كل فواجعنا الوطنية من لدن موقعة “كرري” وحتى سقوط “هجليج” الأخير.. وهذه الحادثة ستظل واحدة من أكبر الزلات وواحدة من أعظم الوصمات التي يمكن أن توصم بها مسيرة وتاريخ الإنقاذ ومسيرة وتاريخ الإسلاميين في السودان.

{ وأنا أقول هذا الكلام رغم تنطع المتنطعين ورغم تسطح المسطحين، الذين فرحوا وهللوا وكبروا بانشطار السودان وذهاب جنوبه الذي عدوه إبليساً لعيناً وشيطاناً مريداً أراحهم الله من شره وعافاهم من سوء عمله.. وهم بذلك يتجاوزون ذكاءهم ويتخطون وطنيتهم ويتغافلون عن صميم فقههم وركائز معتقدات دينهم.. لأنه لا يوجد شخص منحه الله موهبة الفطنة والذكاء يفرح بفقدان جزء عزيز من أرضه وقسط وافر من ثروته وجمع عظيم من شعبه، ولا يوجد شخص وهبه الله مزية الوطنية وسجية حب الأوطان يغتبط بفقدان جزء غالٍ ونفيس من وطنه وقطعة عزيزة من تراب أرضه لتقام عليها دولة عدو تقبع خنجراً في خاصرته، ولا يوجد شخص أعطاه الله فقهاً وعلماً يبتهج ويسر بالتفريط في ملايين المسلمين المستضعفين من أبناء شعبه وملايين غير المسلمين المساكين من أبناء وطنه والقذف بهم إلى أتون الفتنة والابتلاء والظلم على أيدي مجرمي الحركة الشعبية وتركهم لقمة سائغة للمنظمات الصهيونية والكنسية وهم يستنجدون ويقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً.

{ ورغم أن الكثيرين يحملون الأخ الأستاذ “علي عثمان محمد طه” مسؤولية انفصال الجنوب إلا أن الأمانة تقتضي القول إن اتفاقية السلام لم تكن اتفاقية شخص أو أشخاص مفاوضين، وإنما هي مشروع جماعي ضخم وشركة متعددة الأسهم ساهمت فيها كل آليات الدولة وكل أدوات الحزب، وقادت حوارها أرتال ضخمة من المفاوضين يمثلون كل مؤسسات الدولة والحزب لم تستثن حتى القوات النظامية وشبه النظامية.
{ صحيح أن كل ذلك الزخم كان يقوده الأستاذ “علي عثمان” والذي كانت قيادته تمثل السلم النهائي لعمليات ضخمة يقودها عدد من اللجان وتعدّ المحاضن الأساسية لعمليات التفاوض بين الأطراف.

{ ولكن الناس يذكرون ويتذكرون جيداً أن الأستاذ “علي عثمان” في كل المحكات الصعبة كان يحزم أمتعته ويعود آفلاً إلى الخرطوم من “نيفاشا” لإجراء العديد من المشاورات والتشاور حول موقف الجانب الحكومي الواجب اتخاذه قبل أن يمرر ذلك الموقف ويعتمده في الاتفاقية.. كما يذكر الناس أنه وعقب انتهاء المفاوضات وقبل التوقيع النهائي على الاتفاقية تمت إجازتها من مجلس الوزراء والمجلس الوطني، كما تمت إجازتها داخل كل مؤسسات الحزب القيادية والشورية.. كما يذكر الناس أن المعارضة قبل الحكومة بسنوات ومنذ العام 1995 كانت قد وافقت على منح الجنوبيين حق (تقرير المصير) في مؤتمر أسمرا الذي سمته المعارضة (مؤتمر القضايا المصيرية) حتى يعلم الناس أن سهم المعارضة في الانفصال كان حاضراً ووافرا ًلأنها هي أول من علمت المفاوضين السحر وهي أول من علمتهم حق تقرير المصير، وبالتالي هي أول من غرست شجرة تقرير المصير، وهي أول من بذرت بذرة الانفصال قبل “نيفاشا” وقبل اتفاقية السلام حتى لا ترمي الحكومة بدائها وتنسل.
{ وبذلك تكون اتفاقية السلام هي خلاصة نشاط جماعي يمثل كل الأحزاب وكل الدولة وكل الحزب الحاكم لا يملك فيه الأستاذ “علي عثمان” إلا سهم القيادة (فقط لا غير).

{ ولذلك يخطئ من يحاول نسبة الاتفاقية بخيرها وشرها إلى شخص واحد بعينه لترمي كل جرائرها ومثالبها على أثواب الأستاذ “علي عثمان محمد طه”.
{ كما أن الأمانة تقتضي القول إن اتفاقية السلام كانت اتفاقية ضخمة وعظيمة لولا بعض الثقوب والحفر والمطبات التي وقع فيها وفد التفاوض الحكومي بسبب الطيبة الزائدة وحسن النية المنداح في نوايا الحركة الشعبية وفي نوايا (عتاة المجتمع الدولي) الذين خادعوا الوفد الحكومي وأعطوه إحساساً كاذباً باستحالة وصعوبة الانفصال وسهولة وقرب الاتحاد وفق معادلة جديدة في الثروة والسلطة، ووفق حوافز وافرة تمنح للجنوب لتجعل الوحدة جاذبة.
{ حيث صدق الوفد الحكومي ذلك الإحساس وابتلع تلك الخديعة وافترض أن الوحدة آتية آتية، وبالتالي تعاملوا بكرم فياض وأريحية زائدة مع مطالب الحركة الشعبية باعتبار أن كل ما يمنح للجنوب سيكون مكاسب تمنح لأرض سودانية أهملت وعانت وسيكون مكاسب لمواطنين سودانيين ظلموا كثيراً من جراء الحرب والفقر.

{ وافترض الوفد أن هذا الكرم سيكون أكبر دافع لتمسك الجنوبيين بالوحدة، ولذلك أغدق في العطاء وأجزل في الكرم وأوفى في الكيل.. وبسبب طيبتنا السودانية لم نتحسب لمكر وخبث الحركة الشعبية ولم نتحسب لمكر وخبث المجتمع الدولي اللذين رضعا من مكر اليهود وتغذيا من خبث الصهيونية.
{ ولذلك ولولا هذه الثقوب لكان مفاوضونا قد أخرجوا للبلاد اتفاقاً عظيماً يسجله التاريخ حتى لو انفصل الجنوب.. لأن الانفصال كان حينها سيكون اختيار الجنوبيين دون مخادعة وقرار شعب الجنوب دون خديعة، لأن الذي آلم وأحزن الناس هو حدوث الانفصال مع الإحساس بالخديعة والشعور بالمخادعة من الحركة الشعبية والمجتمع الدولي.

{ كما أن الأمانة تقتضى القول إن قرار الانفصال ورغم نتيجة التصويت الكاسحة لم يكن قراراً حراً لشعب جنوب السودان المسكين المغيب والمغلوب على أمره الذي مورست ضده كل صنوف القهر والإكراه والفتنة والخداع ودفع دفعاً وأكره كرهاً لاختيار الانفصال.. بل إن مجموعات كبيرة منهم صوتت وهى لا تدري على ماذا صوتت ولأجل ماذا صوتت.

{ هذا غير عمليات التزوير الواسعة بسبب غياب المراقبة وترك الأمر كله للحركة الشعبية وأكابر مجرميها، ولذلك كان قرار الانفصال هو قرار دول استعمارية حاقدة نفذته بإتقان عبر مجموعة من العلمانيين، عملاء المخابرات من أبناء جنوب السودان في الحركة الشعبية.
{ ورغم كل ذلك فقد حدث ما حدث وتمت إرادة الله الغالبة ووقع القدر المحتوم وانفصل الجنوب، وفرح الاستعماريون وفرح علمانيو وعملاء المخابرات من مثقفي الجنوب، وفرحت كل الدول الحاقدة التي دفعتهم نحو ذلك الانفصال دفعاً، وفرح كل من في قلبه عمى أو في عقله شطط لم يلق السمع وهو شهيد.
{ وحزن السودان وحزن شعب السودان.

{ وازداد الحزن حزناً وازداد الغم غماً عندما قال “باقان أموم”: (ارتحنا من وسخ الخرطوم).
{ ولكن لأن السودان دخل تلك الاتفاقية يبتغي السلام بقلب صافٍ ونية سليمة ما أرادت خداعاً ولا ابتغت خيانة.
{ ولأن سنن الله ماضية لم تتخلف أبداً.. ولأن الله تعالى كان قد قرر في الأزل أنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، تحول الجنوب إلى كتلة من اللهب يتقاذفها أصدقاء الأمس أعداء اليوم، وانفتحت فيه أبواب السماء بلهب منهمر من الحروب والدماء والدمار، وتفجرت الأرض براكين من النزاعات والقتل والسحل، وتحولت الدولة التي لم تبلغ الفطام إلى أكبر مشروع فاشل تقوده أمريكا والمجتمع الدولي الذين حصدوا الحنظل وقبضوا الأشواك.
{ ووضعت أمريكا والمجتمع الدولي أيديهم على خدودهم وهم ينظرون إلى الدولة الضرار التي لم تؤسس على التقوى من أول يوم وهي تنهار على شفا جرف هارٍ، وتحولوا إلى أعداء يشتم بعضهم بعضاً ويشتمون دولة الجنوب صباح مساء.

وعلموا كم كان السودان عظيماً وذكياً وهو يدير ويحكم ذلك التناقض الجنوبي، وكم كان السودان رحيماً رؤوفاً عطوفاً بشعب الجنوب المسكين، وأصبح شعب الجنوب المسكين يتلفت شمالاً ويميناً، ولم يجد الجنوبيون شيئاً سوى الموت أو العودة إلى بلادهم القديمة التي تركوها بالقهر والمخادعة ورحلوا عنها كرهاً تحت سنابك الحركة الشعبية.

{ ولذلك أخي الرئيس أن الفرصة الآن مواتية جداً ليضرب السودان ضربته دون حرب، وليرجع السودان أرضه وشعبه دون سلاح، وليستعيد السودان ثروته دون رهق وليغيظ السودان كل أعدائه من شياطين الأنس والجن.
{ وشعب الجنوب الآن مهيأ بعد أن انجلت من عينيه الغشاوة، وبعد أن عرف من هم أعداؤه الحقيقيون وينتظرون فقط من يطلق الصيحة.. هم فقط يريدون من يطلق عنان المبادرة.

{ فاطلقها أخي الرئيس ولا تستمع لدعاوى المحرضين الشامتين المترفين الذين ما دروا بحجم الإثم والذنب الذي ارتكبوه في حق بلادهم وشعبهم ودينهم، وما أحسوا بحجم الفاجعة التي وقعت على رأس بلادهم، وما علموا بعظم الخسارة ورهق الفجيعة التي ألمت بمواطنيهم من جراء الانشطار ومن جراء الانفصال، والتي يدفع الشعب الآن في الدولتين شمالاً وجنوباً فواتيرها بأثمان باهظة لا يعلمها المترفون الذين ينامون على الحرير وفي آذانهم وقر لا يسمعون صيحات الثكالى وأنات الجياع.

{ ولذلك افعلها أخي الرئيس، وتوكل على خير الماكرين وسيأتي الجنوبيون حبواً نحو الوحدة التي قطعاً ستكون وفق أسس جديدة في مصلحة الشعبين.. افعلها وتوكل أخي الرئيس حتى تزيل الفاجعة وتمسح الوصمة وترجع خريطة السودان كما كانت مليون ميل مربع، وستكون هذه أكبر هدية تقدمها للشعب السوداني، وأكبر ضربة تسددها للمخطط الصهيوني.. وعندها سيعود السودان قوياً فتياً، وسيتعافى الجنيه السوداني صحيحاً منيعاً، وسيخرج شعب السودان في الدولتين فرحاً يهتف باسمك.. وعندها سيسجل التاريخ اسمك في العظماء والخالدين” وعند ذاك سيلحس “باقان” و”عرمان” أسفل أحذيتهما، وتعلم أمريكا وكل شياطين الإنس والجن أن الله واحد وأنه خير الماكرين

عبد الهادي عبد الباسط

الهندي عزالدين – شهادتي لله
صحيفة المجهر السياسي

Exit mobile version