فليسعد وئام سويلم .. جنرال مخابرات مصر في الخرطوم !!

ذهب القدر من قبل برجل طاعن في السن إلى مصحة للأمراض العقلية.. وبعد أسابيع، تولى أمر رعايته نزيل آخر بشكل وجد إشادة الجميع.. كان يطعمه ويسقيه وينظفه ويؤانسه طوال الساعات النهار وبعض ساعات الليل،

وكأنه والده.. ولكن ذات يوم، تفاجأ الجميع بالعجوز مقتولاً والنزيل الذي ظل يرعاه ويعتني به جالساً بجواره وكأن الأمر لا يعنيه.. فسألوه : (يا زول عمك ده الكتلو منو؟).. فرد عليهم بكل براءة : (أنا الكتلتو)، فسألوه بدهشة: (ليه؟)، فرد بذات البراءة : (مش حقي؟، أنا حر فيهو).. وهكذا عرف الجميع سر علاقتهما .. لم تكن العلاقة إنسانية وأخوية، بل كان لأحدهما إحساس بأنه يمتلك (الآخر)، وله حق التصرف فيه، ولو بالقتل..!!
> وهكذا ظلت علاقة الأنظمة المصرية بالسودان.. إذ كان الإحساس أنهم يمتلكون السودان وشعبه، ولهم حق التصرف فيهما والتحكم في قراراتهما والتدخل في قضاياهما.. ولكن ما أن بدأت الحكومة السودانية تسجيب لوعي الأجيال هنا، وتمضي بالسودان نحو مسار آخر، وبعيداً عن مسار التوجيهات المصرية وتعليمات سفارتها بالخرطوم، كشفت المخابرات المصرية عن الوجه الحقيقي لما كانوا يسمونها العلاقات الأزلية، لتعرف الأجيال الواعية في بلادنا أن كل تلك العلاقات السابقة ــ التي كانت مسماة بالأزلية ــ لم تكن إلا علاقة (مُش حقي؟، أنا حُر فيهو)..!!
> واليوم، لا يصح إلا الصحيح، فكل تعامل هناك يجد هنا التعامل بالمثل .. فمنذ الخميس الفائت بدأت السلطات السودانية في تطبيق قانون الإقامة على المصريين بالسودان، ومنها فرض الرسوم والغرامات على المخالفين بأثر رجعي.. وأعادت السلطات بمطار الخرطوم بعضهم لسداد ما عليهم من رسوم وغرامات، وكانوا ينوون المغادرة إلى بلادهم.. وهذا الإجراء يبدو قاسياً، وما كنا نتمناه للمواطن، ولكن هذا هو المسمى التعامل بالمثل .. أي هي ذات الإجراءات التي طبقتها السلطات المصرية على السودانيين بمصر قبل (شهرين).. أي لفترة شهرين تعيد السلطات المصرية السودانيين من المطارات والموانئ ليدفعوا رسوم وغرامات الإقامة، وهذا يعني أن السودان صبر على صلف المخابرات المصرية (شهرين)..!!
> وقبل أسابيع، عندما تعالت أصوات السودانيين بالمطارات والموانئ احتجاجاً على المنع من السفر لحين تسديد رسوم وغرامات الإقامة، كتبت زاوية تحت عنوان ( صباح الخير يا جاري)، وكانت دعوة لإلغاء الكذب السياسي المسمى اتفاقية الحريات الأربع.. واليوم، بعد تطبيق السلطات السودانية مبدأ التعامل بالمثل، فإن إلغاء اتفاقية الحريات الأربع لم يعد بحاجة إلى دعوة .. لم تعد هناك حريات أربع بين البلدين إلا في مخيلة الغافلين عن التحديق في الواقع.. وكنت صادقاً في كل كلمة كتبتها عن خيانة المخابرات المصرية اتفاقية الحريات الأربع .. ونقرأ..
> ( خرج ليتصدق على المساكين، وتذكر ــ في منتصف الطريق ــ أنه لم يخرج بالكاميرا، فأجل الصدقة لوقت آخر.. هذه أقصر قصص النفاق، ولكن الأقصر منها هي المسماة اتفاقية الحريات الأربع.. نوايا الأنظمة المصرية ــ كانت ومازالت ــ تختلف عن نص وروح الحريات الأربع .. ولو كانت النوايا صادقة لما استدعى تواصل الشعبين وتصاهرهما توقيع اتفاقية .. (صباح الخير يا جاري، أنت في حالك وأنا في حالي)، من الأمثال المصرية التي تعكس علاقة الجيران هناك .. ورغم أنها تعكس علاقة خالية من المودة، إلا أن الأنظمة المصرية لم تعامل بها السودان، وليتها تعاملت بها و(خلتنا في حالنا).. وقد أحسنت الخارجية السودانية بفرضها التأشيرات على المصريين من ذوي الفئة العمرية (18 سنة إلى 50 سنة)، عملاً بمبدأ التعامل بالمثل، وهي من مبادئ الحياة العامة ..!!
> ولحسن حظ الشعب المصري، فإن الأنظمة السودانية لا تتعامل مع أنظمة مصر ــ في كل القضايا ــ بمبدأ التعامل بالمثل .. وعلى سبيل المثال، لو تعامل السودان مع مصر بالمثل في قضايا الأمن القومي وإسقاط الأنظمة ودعم المعارضين وتوزيع السلاح والغذاء للمتمردين، لما نام الشعب هناك ــ ليلة ــ مطمئناً .. فالسودان، منذ الاستقلال وحتى موسم تسليح وتغذية المتمردين في جبال النوبة، لا يتعامل مع مصر بالقاعدة الشرعية (العين بالعين والسن بالسن).. وكذلك لا تتدخل الحكومات السودانية في أمر تشكيل الحكومات المصرية عبر سفارة السودان بالقاهرة عملاً بمبدأ التعامل بالمثل..!!
> وكل مواقف مخابرات مصر وإعلامها ــ في كل القضايا ذات الصلة بالسودان ــ لم تعد محزنة ولا مدهشة.. ورب ضارة نافعة .. بتلك المواقف ساهمت مخابرات مصر وإعلامها في توسيع مساحة الوعي الشعبي في بلادنا.. فالوعي الشعبي هنا بدد أوهام (العلاقات الأزلية)، وكشف تلك الأوهام بحيث تبدو علاقات (الأذى لينا).. وحتى في حلقات الأذى المتتالية لم يتعامل السودان بالمثل بحيث يكون الأمر أحياناً (الأذى ليهم).. سجل السودان خالٍ من التآمر ضد شعب مصر، ولم يحرض النظام السوداني ترامب ليحاصر شعب مصر اقتصادياً لحد التجويع ..!!
> وكذلك الإعلام هنا لم ــ ولن ــ يطالب الحكومات بالدخول في مواجهات عسكرية أو سياسية مع الدول، بل كان ــ ومازال وسيظل ــ يطالب حكوماته بسياسة خارجية متصالحة مع دول العالم، وأن تكون لغة المصالح ــ مع عدم التدخل في الشؤون الداخلية ــ هي لغة العلاقات الدولية ..وللأسف، هذا ما يُزعج بقايا مخابرات مبارك التي لا تتمنى أن ترى في الوجود سوداناً مستقلاً في تحديد مساره الخارجي، بحيث يكون هذا المسار مساراً لمصالح السودان.. ومع ذلك فإن المخابرات السودانية لم تُعكر صفو مسار مصر الخارجي عملاً بمبدأ التعامل بالمثل ..!!
> ولذلك، أي لأن التعامل بالمثل من مفقودات السياسة السودانية، يُسعدنا أن تتعلم الحكومة مبادئ الحياة العامة التي منها مبدأ التعامل بالمثل الذي تم تنفيذه نهار الجمعة في المطارات والموانئ بفرض التأشيرة .. التنقل والإقامة والعمل والتملك.. هي الحريات الأربع الموقع عليها بين السودان ومصر.. ولكن ترفض مصر تنفيذ حرية التنقل بالكامل، كما فعل السودان في ذات أسبوع التوقيع على الاتفاقية.. ورغم خُطب الساسة والصحف، ظلت مصر ــ بأمر بقايا مخابرات مبارك ــ تفرض تأشيرتها على تلك الفئة العمرية..!!
> وعليه، ليس هناك ما يستدعي الإبقاء على اتفاقية تتناقض نصوصها مع نوايا المخابرات المصرية.. ولحين إشعار آخر، بحيث تعي تلك المخابرات مخاطر الهاوية الإقليمية والعالمية التي تُساق إليها مصر وشعبها، فالإلغاء هو الأفضل .. وكما الحال مع كل دول العالم بما فيها دول الجوار، فإن علاقة تواصل ومصالح تحكمها دساتير وقوانين السودان ومصر أفضل من هذا الكذب المسمى الحريات الأربع.. ( فضوها سيرة) بالإلغاء، بحيث تكون العلاقات (صباح الخير يا جاري.. أنت في حالك وأنا في حالي)، مع ترسيخ مبدأ التعامل بالمثل في كل الملفات..)
> تلك هي الأسطر التي كتبتها يوم تعالت أصوات السودانيين بمطارات وموانئ مصر، أي كما تتعالى أصوات المصريين ــ منذ الخميس الفائت ــ بمطارات وموانئ السودان.. وكان يجب توثيقها لنكشف للمواطن المصري (عدوه الحقيقي)، أي من يسبب له متاعب السفر من وإلى السودان بوادي حلفا وأرقين والخرطوم.. فليعلم المواطن المصري أن المجتمع السوداني لا يطرد الضيوف ولا يوصد أبوابه في وجوه الزائرين ولا يقيِّدهم بقيود الإقامة.. ولكن للأسف مخابرات حكومتكم ــ التي تنفذ تقارير جنرالها بالخرطوم وئام سويلم ــ هي التي تُرغم المجتمع السوداني على الترحيب بإلغاء اتفاقية الحريات الأربع ..!!

الطاهر ساتي
الانتباهة

Exit mobile version