ضبط 14 ألف متهم و127 طن في عام ونصف العام المخدرات والشباب.. (مستقبل) السودان في مهب الريح

وزير الداخلية :الخرطوم تستهلك 80% من إنتاج البنقو

اللواء أرباب:وصلنا مرحلة الخطر والأرقام مخيفة

الفريق فقراي :على المجتمع أن يضطلع بدوره كما ينبغي

اقتصاديون:تجارة المخدرات أكثر ضررًا على البلاد من الحروب

أحد أصدقائي كان حبيساً بسجن بورتسودان في معاملات مالية ،وعند زيارتي له في إحدى جولاتي الصحفية بالمدينة السياحية، وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث في مواضيع مختلفة، لفت نظري، ونحن جلوس في إحدى المظلات المخصصة لزيارة النزلاء، إلي أحد الشباب، وأشار إليه بيده، وكان في مقتبل العمر ،وقال لي صديقي الذي جمعتني به كورة القدم”الود ده حريف بشكل عجيب في الكورة وفي دوري السجن كل المساجين بشجعوهو “،غير أن ملامح صديقي – الذي توفاه الأجل لاحقاً عليه الرحمة- تغيرت حينما تحسر على موهبة الشاب الكروية لأنه سيقبع وراء القضبان لعشرين عاماً بسبب اتجاره في المخدرات.

دمعة وحسرة
في سجن النساء بأم درمان ، فتاة ما تزال في ريعان شبابها وأخصب سني عمرها ليس أمامها غير الانتظار لعشرين عاماً كاملة حتى يمكنها أن تنال حريتها وتفارق جدران السجن. ووقتها قد تكون علي بعد خطوات من العقد الخامس من عمرها ، ورغم نبوغها الأكاديمي الذي قادها إلى ولوج جامعة محترمة بالعاصمة الخرطوم، إلا أنها اختارت الطريق الخاطئ مثلما فعل شاب سجن بورتسودان ،وذلك حينما اختارت الاتجار في الحبوب، فكان أن وقعت في أيدي الشرطة التي كانت تتابع تحركاتها وترصد نشاطها المشبوه. وفي المحاكمة أدينت وفقاً لنص المادة 15 من قانون المخدرات والمؤثرات العقلية وحكم عليها بأن تقضي عقوبة السجن لعشرين عاماً وهي فترة تبدو كفيلة إن لم تمضي في طريق المخدرات لأن تنال شهادتها الجامعية وتلتحق بعمل وتدخل الحياة الزوجية،ولكن اليوم لاتجد أمامها غير البكاء علي اللبن المسكوب والشعور بالندم على ما اقترفته يداها وتورطها في تجارة ليست ممنوعة قانوناً فحسب بل محرمة شرعاً .

في انتظار الإعدام
مع تنامي ظاهرة احتراف الاتجار في المخدرات وترويجها ، شهد القانون تطوراً متصاعداً إلى أن وصل مرحلة إصدار عقوبة الإعدام علي تجار المخدرات ووفقاً لأرقام غير دقيقة فإن المحكومين بالإعدام والمؤبد بسبب اتجارهم في المخدرات القابعين بسجن الهدي يبلغ عددهم ألف سجين ،وهو رقم مخيف ومفزع يشير إلى أن المحكومين بسبب المخدرات في سجون البلاد المختلفة ربما تتجاوز نسبتهم الـ50% من جملة النزلاء البالغ عددهم حتى العام الماضي ستة عشر ألفاً ،وثمانمئة ألف نزيل وهو عدد كبير ومثير للاهتمام لجهة أنه مؤشر على أن المخدرات لم تعد قضية أو ظاهرة صغيرة، بل تحولت إلى مهنة رائجة يتجه نحوها الآلاف بغية الحصول على المال المعطون في ماء الحرمة الشرعية .

أرقام صادمة
إذن فأن الواقع يؤكد تنامي ظاهرة الاتجار في المخدرات والتي بسببها ضاع مستقبل الآلاف من المواطنين إما إعداماً أو حكمًا رادعاً يقضي ببقائهم خلف القضبان لعشرات السنوات . دعونا نقارن بين ما بالسجون بأرقام وإحصاءات وزارة الداخلية التي تستحق الإشادة في تعاملها مع هذا الملف تضييقاً علي زراعة المخدرات وترويجها بالإضافة إلى سياستها الشفافة في تمليك الرأي العام الإحصاءات والمعلومات كاملة دون مواربة كما تفعل معظم الوزارات، فمن خلال بيان وزير الداخلية الأخير، أمام المجلس الوطني فأن العام الماضي شهد تكثيف الجهود الشرطية لمحاصرة زراعة وتجارة المخدرات ودخولها للبلاد ،وتبدو الأرقام التي كشف عنها الوزير مفزعة وداعية للخوف على مستقبل هذه البلاد . ففي العام 2016 وفي إطار الحملة القومية السنوية لإبادة مزروعات الحشيش فقد تم تسيير حملتين إلى مناطق زراعتة بالردوم بجنوب دارفور وأسفرت الحملتان عن ضبط 45 طناً من الحشيش “تعادل حمولة اثنتين وعشرين عربة تايوتا بوكس” ،وليس هذا الرقم وحده الذي يثير الفزع فالبلاغات التي تم تدوينها إثر ضبط مروجين ومتعاطيين بلغت ثمانية آلاف وتسعة وثلاثين وثلاثمائة بلاغ في ذات العام،بالإضافة إلى إلقاء القبض على أحد عشر ألفاً وثمانية وثلاثين ومائة متهم بمعروضات بلغت ثمانية وخمسين ألف طن من القنب الهندي ،ليس ذلك وحسب بل تم ضبط أثني عشر كيلو من الكوكايين ، وما يقارب الأحد عشر طناً من القات وأربعة ملايين وثمانية وخمسين وخمسمائة ألف حبة مخدرة ،والأدهى والأمر وما يؤكد أن المخدرات باتت تجارة رائجة فان السلطات الشرطية لم تكتف بضبط مايقارب المائة طن خلال العام الماضي من المخدرات بل وضعت يدها على 87 عربة تستعمل في نقل “السم الهاري” بالإضافة إلى أسلحة منها مدفع آربجي ودانتان وقرنيت وأكثر من عشرة آلاف طلقة ،وهذا يعني حدوث تحول كبير في تجارة المخدرات.

خطورة بالغة
كان ذلك خلال عام كامل في 2016 ،أما في الربع الأول من هذا العام أي الثلاثة أشهر الأولى فأن الارقام لاتبشر بخير وتؤكد أن تجارة المخدرات تمضي في تنامٍ وفي ذات الوقت تسارع الشرطة خطواتها وإجراءاتها الصارمة لمحاصرتها ويتضح هذا من خلال الأرقام التي تشير إلى أن الربع الأول من هذا العام شهد تدوين ألفي(اثنين) وتسعمائة بلاغ ،والقبض على ثلاثة آلاف و سبعة وستمائة متهم وبلغت كمية المعروضات 22 طناً من البنقو وطناً وثمانمائة كيلو من القات ونصف مليون حبة مخدرة ،بل تم ضبط شتول حشيش ،أما السيارات فبلغت 27 بالإضافة الي ركشات ودراجات بخارية وأسلحة ،وهذه الأرقام تعني أنه في خمسة عشر شهراً فقط تم ضبط 123 طن من المخدرات بالإضافة إلى أكثر من خمسة ملايين حبة مخدرة ،والتحفظ على 114 عربة ،فيما بلغ مجمل الذين أوقفتهم الشرطة ووضعتهم متهمين بالاتجار أو التعاطي خلال عام وربع العام فقط أربعة عشر ألف وخمسة وأربعين وسبعمائة مواطن ،وهو رقم أقل مايمكن وصفه بالكبير والمخيف.

تحذير وأسباب
وهنا تقفز الأسئلة على السطح حائرة من التنامي الواضح لأعداد الضالعين في تعاطي المخدرات والاتجار بها ،وهي زيادة اعترفت بها وحذرت منها الإدارة العامة لمكافحة المخدرات التي لم تكتف بذلك بل وصفتها بالمخيفة ، ويبدو أن وزير الداخلية اللواء الدكتور حامد منان الذي تم تكليفه أخيراً يعرف جيدًا أسباب تفشي تجارة الموت،فقبل تعيينه كان مديراً لإدارة مكافحة المخدرات ،وهذا جعله ذات يوم وفي إحدى السمنارات يشير إلى أن عدم الاستقرار الذي تشهده ولايات دارفور أسهم في انتشار تجارة وتعاطي المخدرات وإدمانها ، بسبب زيادة المساحات المزروعة بها في مناطق النزاع ، ومساعدة الحركات المسلحة تجار المخدرات ومدهم بالأسلحة الثقيلة ووسائل الاتصال وتشجيعهم على زراعتها . وأضاف أن زيادة الكميات المنتجة والمتداولة من المخدرات انعكست على ولاية الخرطوم ، وهي تستهلك 80% من إنتاج الحشيش ( البنقو ) في البلاد ، وناشد اللواء منان يومها ولإدراكه بخطورة المخدرات قطاعات المجتمع بأكملها للإسهام في توفير الميزانيات الضخمة التي تحتاجها عمليات المكافحة ، معتبراً القضية قضية عامة وليست حكراً على الحكومة ،و دعا إلى تبني منهج علمي لبحث ظاهرة تنامي انتشار تعاطي وإدمان المخدرات بين شرائح الشباب والطلاب في الجامعات والمدارس السودانية . وقال اللواء منان ان إدارته دعت مديري الجامعات ومسؤولي العمادات الطلابية للاستفادة من خبراتهم في الدراسة التي سيعتمد على نتائجها في ايجاد الحلول والمعالجات للظاهرة.

ناقوس الخطر
لم يجد الخبير الأمني والاستراتيجي اللواء عبدالرحمن أرباب في حديثه مع “الصيحة” غير وصف الأرقام التي كشف عنها وزير الداخلية أخيراً بالمزعجة والمخيفة للغاية ،ويعتقد أن الأمر وصل مرحلة تستوجب على المجتمع الانتباه والحذر لأن تعاطي المخدرات والاتجار فيها بات يتنامي يوماً تلو الآخر ،مشيراً إلى أن الأسباب متعددة تقف وراءها وقد اتفق مع وزير الداخلية في بعض مما ذكره آنفا ،وقال إن الحركات المسلحة وبحثاً عن التمويل والمداخيل التي توجهها نحو شراء السلاح والتحرك والتسيير لجأت إلى تشجيع زراعة المخدرات بدارفور بل وتسليح المزارعين ،ويلفت ارباب الي وجود اسباب اعتبرها ايضا من العوامل المباشرة لتفشي المخدرات ومنها الفراغ الذي يرزح تحت وطأته الشباب والطلاب وعدم اهتمام الدولة بهم وتركهم في قارعة الطريق دون وجود برامج تمثل حائط صد حتي لاينحرفوا عن جادة الطريق .

بطالة وظلم
ويمضي اللواء أرباب، في حديثه ،لافتاً إلى أن أسباباً أخرى لها تأثير في تنشيط تجارة المخدرات ومنها الاستلاب الحضاري والفضاء الأسفيري المفتوح ،بالإضافة إلى البطالة والشعور بالظلم من المحسوبية وضيق مواعين التعيين ،مؤكداً على أن المسئولية لاتقع علي الشرطة بمعزل عن مؤسسات المجتمع الأخرى،ويضيف:بخلاف أن المخدرات محرمة شرعًا فأنها تهدد مستقبل الأمة المتمثل في الشباب الذين باتوا عرضة اليوم لهذا الخطر الماحق ودمارهم يعني مستقبل للشعب السوداني الذي يعتمد عليهم ويدخرهم لمقبل الأيام ،جازمًا بأن المجتمع غير منتبه إلى هذه القضية الخطيرة وأن عليه ان يتفاعل معها بعودة منظومة الأسرة الكبيرة بأن يزجر الكبير الصغير إذا اخطأ حتى إذا لم يكن بينهما رابط ،ويؤكد أن الأوضاع إذا استمرت علي ماهي عليه حالياً فأنها تنذر بشر مستطير في المستقبل القريب والبعيد.

مخاوف حقيقية
الضبطيات الكبيرة للشرطة خلال عام ونصف العام توضح أن 127 طن مخدرات كان في طريقه للتعاطي ،من هذه الزاوية ينظر الخبير الأمني الفريق شرطة عثمان فقراي إلى الأمر ويقول::بكل صدق كلما تعلن الشرطة عن ضبط كميات كبيرة من المخدرات أشعر بأن ثمة شيئاً غير طبيعي تتعرض له بلادنا ،فبحكم خبرتي كرجل شرطة سابق أرى أن الكميات التي تم ضبطها خاصة القادمة من خارج السودان تعتبر كبيرة ومثيرة للدهشة والتساؤلات ،واعتقد أن الأمر بات بالغ الخطورة ويشي بأن ثمة جهات تستهدف السودان،وأبدو مقتنعاً ومتصالحًا مع حقيقة تعرض شبابنا للاستهداف،فالكميات الضخمة التي تم ضبطها بميناء بورتسودان وغيرها تبدو غير طبيعية تكشف أيضاً عن وجود جهة تستهدف تدمير الشباب السوداني ويرى فقراي أن زيادة نسبة الضبطيات تؤكد أن الشرطة عين ساهرة وفي ذات الوقت توضح وجود ثغرات قادت الي دخول المخدرات الى مدن البلاد المختلفة،ويقطع فقراي بأي القضية باتت أكبر من الشرطة وأنها باتت تحتاج إلى استنفار واهتمام من أعلى مستويات الدولة بالإضافة إلى المجتمع،وقال إن سد الثغرات مسئولية تضامنية .

أسباب ومعالجات
عدد من الاقتصاديين الذين تحدثت إليهم أكدوا خطورة تجارة المخدرات التي قدروا رأس مالها بأكثر من سبعة مليارات دولار ،معتبرين أن هذا الرقم الضخم يوضح حقيقة تطور هذه التجارة بالسودان الذي يكشفون انه بات معبراً ومستهلكاً ومنتجاً ،جميعهم اتفقوا على أن الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تمر بها البلاد دفعت أعداداً مقدرة من الذين أطلقوا عليهم وصف”ضعاف النفوس” إلى امتهان تجارة المخدرات ،فيما دفعت ذات الأوضاع عدداً مقدراً من الشباب إلى تعاطيها متوهمين بأنها ستبعدهم عن الواقع وتقاطعاته الكثيرة ،ويرى اقتصاديون أن العلاج الحقيقي يتمثل في ايجاد بدائل لزراعة المخدرات بدارفور بالإضافة الى ضبط الحدود والموانئ،علاوة على توفير فرص عمل للشباب ،واعترفوا بأن القضية تهم كل المجتمع وليس الشرطة وحسب ،وعابوا علي الدولة عدم استنفارها كافة الجهود الرسمية والشعبية لمحاصرة خطر المخدرات الذي يرون أنه أكثر ضرراً من الحرب .

الخرطوم:صديق رمضان
صحيفة الصيحة

Exit mobile version