صور من السودان في 30 يونيو 1989م

صعيبة حقا كانت أوضاع الشعب السوداني والشارع السوداني صبيحة الإنقلاب، وصل الشعب يومها إلى مراحل قاتلة معيشيا وأمنيا وتعليميا وصحيا، والحديث هنا لمن لم يحضر تلك الحقبة المنتهية بصبيحة الجمعة ممن سيستمع إلى الردح والمدح السنوي في ذكرى الإنقلاب كما يسميه أعداؤه أو الثورة كما يسميها أهلها.

– كان الخبز يومها سلعة نادرة جدا حيث يتوجب عليك المبيت بالمخبز أو المكوث به ليومين أحيانا، ناهيك عن المعارك التي تنشأ بين المواطنين في سبيل قطعة خبز واحدة، فإذا خرجت دفعة خبز يتقاتل الناس عليها فتتمزق في الهواء فلا يحصل على بعضها إلا قلة من الأقوياء ويضيع باقيها تحت أقدامهم.

– كان السكر سلعة نادرة، وكنا نشرب الشاي (إن وجد) بالبلح وحلوى (كرملة) أو (دربس) كما يسمونها.

– لا يوجد صابون ولا حتى سجائر نتن، كله بالصفوف الممتدة، لا تستحق أكثر من قطعتين أو ثلاث قطع صابون رديء أسبوعيا.

– كان الزيت معدوما فكنا نأكل (البطاطس) و(البامبي) مسلوقا دون خبز، وقد نجد أرزا لسنا من أهله أو مكرونة (بالملح)، ذلك في العام 1988م.

– كان الوقود سلعة شديدة الندرة وصفوف الوقود لم تنته طيلة عهد الديمقراطية الغريبة تلك، مما ولد ندرة رهيبة في المواصلات، كان المشوار من السوق العربي لأطراف العاصمة يقضى بالأرجل غالبا في وقت الذروة، ليس هنالك (هايسات) بالمعنى الراهن بالطبع، كانت صفوف الوقود طويلة لم ير أحد مثلها منذ ذلك الحين، كانت الباصات قليلة جدا وأكثرها (لواري فورد) تم تحويلها لباصات، وترى الركاب المعلقين خارج الباص أكثر ممن هم بداخله.

– كانت المجاعة تضرب كل الأقاليم حتى مات مئات السودانيين ووصلت الإغاثة الأمريكية والعربية إلى قلب العاصمة وأطرافها حيث اشتهرت (المويلح) معسكرا للنازحين من كردفان، لقد حفر الناس في كل الأقاليم خصوصا كردفان بيوت النمل ليخرجوا منها مخزونه من الطعام ويأكلوه، وهذا موثق في الإعلام.

– كنا نقف صفوفا للإغاثة الأجنبية في أبي روف وبيت المال والثورة وجميع أحياء العاصمة، دعك من الأقاليم، كانت المجاعة بيننا.

– كان التمرد الجنوبي بقيادة العقيد جون قرنق على مشارف كوستي والجبلين ويرسل رسائله للخرطوم يوميا عبر إذاعته بأن تستعد لغزوها، ويصدر تعليمات لكتائب داخل الخرطوم، كان المواطنون يستمعون لتلك الإذاعة عصرا ويعيشون في هلع شديد.

– كان الجيش يحرك دباباته ليلا في العاصمة حتى لا ينفرط الوضع.

– كانت هناك جامعتان ومعهد فقط في الخرطوم، إحدى الجامعتين مصرية، والجامعة الثالثة في جوبا، مما قلل فرص القبول وجعل الطلاب يمتحنون للجامعة مرارا وتكرارا دون جدوى.

– كان الصراع رغم ذلك على أشده بين الأحزاب على تشكيل الحكومات والمناصب تحالفا وائتلافا وانسحابا ومكايدة، وكانت خطب السيد رئيس الوزراء الرنانة هي أشهر مافي ذاك العهد.

– كانت القوات المسلحة يومها حافية وعارية وجائعة إلا من البسالة والشجاعة والفداء، ولم تهزم في ميدان قط بل استشهدت واقفة كما النخيل.

– كانت الصحف تطفح بفساد الأحزاب ورموزها ووزراءها أيضا وهي موجودة لمن يريد الاطلاع.

– كانت دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق مشتعلة (نعم منذ ذلك الحين) بين قبائلها وبين التمرد والجيش، ومعظم المدن في (المنطقتين) في أيدي القوات المتمردة منذ 1983.

– كانت الماء والكهرباء خدمات نادرة جدا في الخرطوم نفسها وتستمر القطوعات (العامة) لأيام متطاولة.

– كان الهاتف الثابت سلعة كمالية موجودة في قليل من البيوت، ورغم ذلك كانت (الحرارة ساقطة) دوما، أي (الشبكة طاشة)، لم يكن هنالك موبايل طبعا وكان معظم التراسل عبر البوستة.

– لازال كل من عاش تلك الأيام وأنا منهم نندهش من وجود بنزين في الطلمبات دون صفوف أو خبز أو سكر أو زيت في المتاجر، دعك من هذه الكماليات التي لا حد لها، نرى ذلك إعجازا.

– كان الشعب الخارج لتوه من عهد العسكريين نميري وخليفته الزاهد سوار الذهب يتمنى إنقلابا، كان أكثر من حزب يدير إنقلابا جاهزا، ولكنها فقط كانت من نصيب الإنقاذيين..

– هذا بأمانة أقل بكثير مما كان يجري وأسعفتني به الذاكرة، والشهود عليه بالآلاف ورحم الله الملايين، فهونوا عليكم واجتهدوا للمستقبل.

– لقد شكل ذلك الوضع المذكور صدمة لجماهير إنتفاضة إبريل مد الله في أيامهم ورحمهم، مما منعهم أن يدافعوا عن الديمقراطية مثلما دافعت عنها غيرهم من الشعوب.

– الآن كل شيء متوفر في السودان ما عدا الماركات الأمريكية، لأن السودان يمارس العقوبات الاقتصادية والتجارية الجائرة على أمريكا، لكن رغم ذلك فلسان حال المواطن الغلبان هو (العين بصيرة واليد قصيرة).

– إذا ولكل ما سبق، فالإنقلاب كان بالنسبة لكثير من السودانيين لا يمكن تجنبه أو رفضه، سواء كان من الإسلاميين أو من غيرهم والله أعلم..

خالد أبو سليمان
30/6/2017م.

Exit mobile version