*لدي حنين جارف نحو الأمكنة الحنينة..
*نعم؛ فالأمكنة قد تكون ذات أُلفة نحوك… أو جفوة… أو لا مبالاة..
*أو أنت الذي تكون أليفاً تجاهها…أو مجافياً…أو محايداً..
*وربما يكمن سر هذه الأحاسيس المتبادلة في ذكريات بعينها… حلوها ومرها..
*وذلك بافتراض- يقرب إلى الظن عندي- أن للأمكنة مشاعر..
*ومن هذه الأمكنة- وهي عديدة- بلدة الخندق الأثرية بشمالنا النوبي..
*وأعظم أثر فيها هو قلعة (قيلي قيلي)… وتعني أحمر في أحمر..
*وأعظم ملوكها هو الملك بشير… الذي سُميت البلدة باسمه..
*وهو جد كاتب هذه السطور… وجد الشاعر النوبي المعتق عبد الإله زمراوي..
*وكذلك جد الهرم النوبي محمد وردي… من جهة أمه..
*وقبل أيام كاد أحد أبنائها ذوي الحنان يبكي أمامي وهو يذكر حنان الخندق..
*ويذكر تحديداً الذي كتبته في كلمة سابقة عن (سر الصوت)..
*وقال إن ذكرياتي الخاصة بتلكم الأيام ذكرته بمكان تسامرهم الشبابي… زمان..
*وهو المكان ذاته الذي يأتي منه الصوت… وصاحبه..
*وإلى الآن لا أحد يدري (من)…أو (ما)… كان صاحب ذاك الصوت المخيف..
*فربما كان بشراً…أو حيواناً…أو ريحاً…أو (روحاً)..
*ومفردة (روح) هذه نختزل بها العديد من تفسيرات الناس الغيبية لمصدر الصوت..
*ولكن محدثي لم يجد الصوت عند زيارته الخندق… حديثاً..
*وهو قريبي أحمد مهدي سلمان… ابن شيخ المنطقة… وأحد سمَّار (المكان)..
*والمكان هو أسفل الاستراحة الشامخة… حيث يمر الصوت..
*يمر من الطريق الجانبي المحاذي لها… وتطل هي على الطريق الرئيسي..
*وتطل كذلك على البلدة…وجزيرتها…ونيلها…وسحرها..
*قال إن كلمتي تلك جعلته يحرص على زيارة (المكان)… من بين بقية الأمكنة..
*فاستشعر المكان… والزمان… والسمر… والصوت..
*استشعر صدى كل ذلكم؛ فاعتصر الحنين قلبه… وعقله… ودموعه..
*فالمكان الذي كان ذا حنين حاضر صار ذا ماضٍ حنين..
*وحتى الصوت ما عاد له وجود… وما عاد المكان هو الذي (ما زي بقية الأمكنة)..
*وكأنما الصوت استوحش المكان بعد هجرة الناس… فهاجر..
*وما دفع الناس إلى هجرة بلدتهم أنها فقدت ما كان يميزها… ويمثل مصدر دخلها..
*وهو موقعها كمركز تجاري يربط بين مناطق عدة..
*من مصر شمالاً وحتى كوستي جنوباً والفاشر غرباً… ومن أحياء الخندق (الفاشر)..
*ولكن البعض يسعى جاهداً الآن لإعادة البلدة سيرتها الأولى..
*وذلك باستبدال مركز تميزها السابق إلى مركز تميز سياحي… وآخر زراعي..
*ومنهم أحمد الذي زارها للبحث عن حاضرها..
*فإذا به يقع أسير ماضيها؛ ويفتقد الضحكات… والهمسات… وفرح الصباحات..
*ويفتقد حتى الصوت الذي كان يخشاه الجميع… ليلاً..
*يخشاه الناس… والحيوان… والطير… وأمواج النيل التي تتكسر فرقاً على الشاطئ..
*فربما كان يصلح هو ذاته لأن يكون (أثراً) سياحياً..
*ولكن لم يبق الآن سوى (صداه !!!).
صلاح الدين عووضة
صحيفة الصيحة