يا مها الأمر ليس كما تظُنين !!

بقدر ما أسعدني حديث القيادية بالمؤتمر الوطني مها عبد العال رداً على من اتهم السودان بإيواء المعارضة الجنوبية، أضحكني وفقع مرارتي حديثها عن أن العلاقة بين الشعبين الشمالي والجنوبي عمرها مئات السنين.

مها ردّت على من اتهموا الشمال بإيواء المعارضة الجنوبية بقولها إن الانفصال تم بإرادة جنوبية صوتت بنسبة (98%) لصالح الانفصال لكنها (عكت) حين لوت عنق الحقيقة بل كسرتها (كع) بقولها إن عمر العلاقة امتد لمئات السنين، ولم أكُن لأعترض لو تحدثت بشيء من العمق والصراحة عن طبيعة تلك العلاقة المترعة بالدماء والدموع أو كشفت عن أن الجنوب أشعل الحرب ضد الشمال منذ العام 1955 أي قبل أن ينال السودان استقلاله، وأن الجنوب لم يحتفل باستقلال السودان إنما اعتبره شأناً خاصاً بالشمال، وأن زعماء الجنوب وقتها قالوا عن ذلك الاستقلال (لقد استبدلنا سيِّداً بسيِّد)، بالرغم من أن الحقيقة المُرة تؤكد أنهم لم يبغضوا السيد الإنجليزي بقدر ما أبغضوا (السيد) الشمالي، بل إن مؤتمر جوبا الذي عقده السكرتير الإداري الاستعماري جيمس روبرتسون عام 1947 ليُشرعن الوحدة التي أراد فرضها على الشمال – رحمة بالجنوب ونكاية في الشمال – أقول إن ذلك المؤتمر كان قد قرّر الانفصال لولا أن روبرتسون، الذي ترأس المؤتمر، زوّره ليقول إن الجنوبيين قرروا التوحُّد مع الشمال كما اعترف في مذكراته.

يا أستاذة مها أقسم لكِ بالله أنه لم تقم وحدة حقيقية في أي يوم من الأيام بين الشمال والجنوب، فقد كانت العلاقة بين الشعبين والمفروضة فرضاً من الاستعمار الإنجليزي متوترة على الدوام، بل كانت حرباً لم ينطفئ أوارها حتى عندما أبرمت اتفاقية أديس أبابا عام 1972 بين الرئيس نميري وجوزيف لاقو، كما كشف اللواء صديق البنا في مذكراته، وهذه قصة يطول شرحها وبمجرد أن أتيحت الفرصة للجنوبيين ليعبّروا عن رأيهم من خلال تقرير المصير لم يترددوا في الإفصاح عن رغبتهم الحقيقية في الانفصال وإقامة دولتهم المستقلة.

ما أدْلَت به مها كان عبارة عن مشاركة في ندوة أقيمت في الخرطوم بعنوان (التواصل الشعبي كرافعة لعلاقات دولتي السودان وجنوب السودان)، ولكن للأسف فإن البعض لا يزالون يصرون على إغراقنا في الأوهام، فقد فترنا والله من الرد على هذه الخزعبلات التي أوقن أنها لا تصدر عن فهم بقدر ما تُمليها عبارات مكرورة ومضروبة أفرزها بيت شعر عاطفي زرعه المستعمر في مناهجنا الدراسية، ولقَّننا إياه في طفولتنا قبل أن ندرك أو نتمعن في معناه وحقيقته وجدواه: (منقو قل لا عاش من يفصلنا).

قلت للأستاذ محمد لطيف الذي يبذل جهداً (محموداً) في سبيل إقامة تواصل بين الشعبين الجنوبي والشمالي إنني أوقن أن الضجيج في بيت جارك يحرمك من النوم فما بالك بالحرب التي تقتل وتدمر وتشرد وتُفقر؟!

لذلك لن نتردد في دعم أي جهد لتحقيق السلام والوئام بين السودان وجيرانه بما في ذلك دولة جنوب السودان بحدودها المتداخلة مع بلادنا ولكن كيف نفعل ذلك؟

بالقطع ليس من خلال حرق المراحل والقفز فوق الحقائق الموضوعية التي لا يجوز تجاوزها أو بالبناء على الأوهام.

الجنوب الآن في حالة حرب طاحنة ولا تزال قياداته السياسية تحمل مشروعاً استعمارياً تستهدف به السودان بدليل أن الحزب الحاكم في تلك الدولة لم يغيّر اسمه ويزيل العبارة المستفزة (تحرير السودان) التي اختارها قرنق كإستراتيجية لمشروع السودان الجديد الذي يدعو إلى إعادة هيكلة الدولة السودانية بما يحرر السودان من هيمنة ما ظل يهرف به ويسميه بـ(الأقلية العربية) على غرار ما كان يحاول أن يستنسخه من تجربة جنوب إفريقيا وروديسيا البيضاء وزنجبار .

أعلم أن الجنوب تتنازعه تيارات وقبائل وإستراتيجيات، ولكن العداء للشمال هو القاسم المشترك الأعظم بين الجميع حتى وإن أخفوه ولا أحتاج إلى الاستشهاد بإيواء الفرقتين التاسعة والعاشرة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق أو حقيقة أن عرمان والحلو وعقار لا يزالون (commanders) أو قادة برتبة فريق في الجيش الشعبي (لتحرير السودان) كما أن الحركات الدارفورية المتمردة ظلت تشن الحرب على الدولة السودانية من داخل دولة جنوب السودان كما ثبت من معارك قوز دنقو وغيرها بل إن اسم جنوب السودان الذي اختير للدولة الجديدة قصد أولاد قرنق به أن تستمر الحرب والصراع إلى أن يتم إنجاز مشروع السودان الجديد ويتوحد السودان ليعود الجنوب جنوباً للسودان تحت حكم الحركة الشعبية، ولن أنسى أن باقان أموم، كبير أولاد قرنق، قال لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية مما نشرناه وقتها إن الانفصال لا يعني انهيار مشروع السودان الجديد إنما يعني الانتقال من الخطة (أ) إلى الخطة (ب).

أعلم أن مشروع السودان الجديد يعاني والحمد لله من سكرات الموت، وقد تلقى من اللطمات ما كان ينبغي أن يزهد عرمان ورفاقه ويجعلهم يثوبون إلى رشدهم كما أعلم أن الجنوب يعاني من أزمات كثيرة من بينها الحروب القبلية التي تهدد وحدته ووجوده، وكذلك تعدد مراكز القرار، وقصدت بهذه السياحة أن أشير إلى (حتة صغيرة) من معوقات التواصل وأن الطريق ليس مفروشاً بالورود، وهناك مقدمات ينبغي أن تحدث قبل أن نحلم بما نتمناه ونطمح إليه.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة

Exit mobile version