صحفي في (مهمة سرية)… رحلة البحث عن (دولار)!

أسوأ قرار يمكن أن تتخذه هو اقتحام السوق العربي بقلب الخرطوم ما بعد الواحدة ظهراً، وذلك نسبة للازدحام الشديد الذي تشهده معظم الشوارع المؤدية لذلك المكان، إضافة إلى اكتظاظ السوق العربي نفسه بـ(جحافل البشر) وأرتال السيارات المتكدسة على جانبيه، لذلك كان قرار الاقتحام (سيراً على الأقدام)، خصوصاً أن المهمة هذه المرة خارج إطار (التسوق)- كما اعتدت دوماً – فهي مهمة خاصة وسرية الهدف الأساسي منها قياس مدى نشاط تجار العملة عقب القرارات الصارمة الأخيرة التي أصدرتها الدولة، والتي وصلت خلالها عقوبة الاتجار بالعملة إلى (الإعدام) أو السجن لمدة لا تقل عن عشر سنوات.

(1)
شارع البلدية الذي اخترنا أن نبدأ رحلتنا منه لقلب الخرطوم كان خالياً نسبياً من تجار العملة الذين كانوا قبيل أسابيع يحتلونه رسمياً وهم يلوحون بـ(رزم النقود) في أوجه السائقين وبعض المارة العابرين، والذين كانوا أكثر اهتماماً من الآخرين بسعر الدولار، وهو ما تلحظه عند وقوف أحدهم أمام التاجر -آنذاك- وسؤاله عن سعر الصرف، قبيل أن يتجاوز التاجر وهو يغمغم باقتضاب: (معقولة الدولار بقى بي 28 جنيه)؟

(2)
تحت ظل شجرة بتقاطع شارع البلدية مع شارع القصر، كان يجلس شاب في أواخر الثلاثينات وهو يراقب حركة المارة بتركيز شديد، قبيل أن يقوم بإدخال يده في جيبه بحركة سريعة ثم يخرجها وكأنه يحاول إفهام العابرين وبطريقة غير مباشرة بإتجاره في العملة، وقد كان هذا يكفيني تماماً لأقترب منه وأقوم بالوقوف على مسافة قريبة، قبيل أن أُخرج هاتفي الجوال وأتحدث بصوت عال مع طرف آخر (افتراضي) عن حاجتي الماسة لمبلغ 1000 دولار نسبة لظروف سفري المفاجئ، وقبل أن أقوم بإنهاء المكالمة (الافتراضية) كان الشاب يغادر موقعه ويقترب مني ببطء لا يخلو من (الحذر).

(3)
دقائق مرت حتى توقف الشاب إلى جانبي مباشرة قبل أن يقول بصوت هامس للغاية: (داير دولار يا شاب).؟.. هنا التفتّ إليه بسرعة قبل أن أجيبه وعيناي معلقتان على تضاريس وجهه التي كانت في تلك اللحظة (متحفزة) للغاية- ربما بسبب عدم اطمئنانه للعبد لله – وربما بسبب خوفه من أن يكون ما أقوم به هو (طُعم) بغرض الإيقاع به في حبائل السجن، لذلك كان من الضروري أن أبدي حسن النية وأجيبه بلهجة فرحة للغاية: (أي بالله عندك دولار)؟… ها هنا أشاح الشاب بوجهه بعيداً عني وكأنه يرفض أن أستبين ملامحه بالكامل قبل أن يقول بضجر: (آي يا عمك… داير كم بس أنجز سريع)، أجبته بسرعة: (ألف دولار ولو في زيادة يكون كويس)، ها هنا قام الشاب بخطوة مباغتة للغاية، فقد قام بإخراج هاتفه الجوال طالباً مني أن أمده برقم هاتفي، وهو الأمر الذي رفضته تماماً، وذلك بحجة أنني أحتاج للنقود حالاً ولست على استعداد للذهاب لأي مكان آخر لاستلامها، لينظر إلى الشاب نظرة حادة قبيل أن يغادر موقعه من جانبي بسرعة ملفتة للنظر!

(4)
ظللت واقفاً في مكاني للحظات وأنا أتابع جسد الشاب الذي انسل بأحد الشوارع الجانبية، قبيل أن أتأمل في بقية الشارع من تقاطع البلدية مع القصر وحتى بوابة المسجد الكبير، تلك المساحة التي كانت خالية تماماً من أي تاجر عملة، وهو الأمر المدهش جداً، فقبل أيام قليلة كان التجار يحتلون تلك المساحة بكل جرءة، بل ويقوم بعضهم بإيقاف السيارات العابرة إلى جانبهم قبيل أن يرددوا عبارتهم الشهيرة: (صرف صرف صرف)!

(5)
(الصدفة) وحدها هي التي قادتني للعثور على تاجر عملة آخر أثناء هذه المهمة الصحفية، وذلك بعد أن عبرت إلى جانبي سيارة فارهة وقبل أن تتخطاني تلك السيارة استمعت إلى صوت أحدهم وهو يقول بسرعة: (صرف صرف)، لأقوم بالالتفات بسرعة لمصدر الصوت لأتفاجأ برجل في مطلع الخمسينات وهو يرتدي جلباباً أبيض ناصعاً ويحمل مجموعة من الهواتف الجوالة، توقفت لدقائق حتى أستبين الأمر، والتأكد من أن ذلك النداء خرج من حنجرة ذلك الخمسيني الذي كان يقف في مكانه دون أن تظهر عليه أيّ من ملامح تجارة العملة، لتمر أكثر من سبع دقائق، قبل أن يتحرك الرجل من مكانه وأقوم بدوري بالسير خلفه حتى وصوله إلى (عمارة الذهب) الشهيرة، وهناك قام الرجل بالجلوس على ناصية العمارة قبل أن يُجري عدة محادثات هاتفية، ومن ثم يوقف سيارة أجرة ويغادر المكان برمته!

(6)
مهمة البحث القصيرة التي قمت بها لقياس مدى الحصول على أيٍّ من أنواع العملة في الأماكن الشهيرة التي كان يتواجد بها التجار، كشفت تماماً مدى الحذر الشديد الذي صار يتعامل به التجار خلال اليومين الماضيين، بينما تحدث لي أحد الباعة الجائلين والذين التقيتهم خلال المهمة عن بعض الأساليب الجديدة التي صار يلجأ إليها التجار وفي مقدمتها الاتصالات عبر الإنترنت، بالإضافة إلى تعاملهم مؤخراً عبر الرسائل الإلكترونية والتي يصعب مراقبتها!

أحمد دندش
صحيفة السوداني

Exit mobile version