اتجنب في حياتى العادية كل ما من شأنه أن يرفع ضغط دمي، ويرسب في مخيلتي ما يتوالد كوابيسَ وأشباحاً تطوف بي كل الليل، مما أتجنبه زيارة المرضى في المستشفيات، وتناول الوجبات خارج المنزل، والذهاب للتشييع في المقابر، ذاك الاحتشاد يخلخلني وينهنهني إذا كان الراحل من أصدقائي!.
لكنني يوم أمس الأول الجمعة كسرت هذا التقليد، ورفعت اللائحة، كما يقول الشيوعيون، وتوجهت فور سماعي النبأ الداوي لمقابر البكري حيث تمت مراسيم تشييع غازي سليمان.
اخترقت هذا التقليد، لأن المرحوم اكبر من تقاليدي، وفوق أمزجتي، ولأنه ودود و(حقاني) خفت أن يلومني، وذلك هو الشبح الاكبر.
عاشرت عشرات السياسيين وامتزج دمي بهم، فتوطدت صلتنا، وتقوت وتصاعدت لكن صلتي بغازي ذات نكهة حارقة ولها مذاقاتها المتعذبة.
يبدو للآخرين مهرجا، لكن ذلك التهرج ينطوي على قناعة أفادها من تجارب عميقة، فهو حين يتبنى موقفا جديدا مغايرا جذريا لما كان قبله لا يعبر عن الموقف الجديد بقدر ما ينتقد مواقفه القديمة بمفردات لا تخلو من جمل التهريج كأنه يعاقب نفسه، ويلوم عقله، وينتقد فطنته التي كان شديد الاعتزاز بها.
غازي نسل من انسال الصوفية، سليل الزهاد الذين قالوا:- (إنا والله لفي نعمة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف)!.
لم يكن يسعى لسلطة، لأنه في الاصل ضد معتقد السلطة، لذا كان صوته عاليا فالذي لا تفتنه السلطة، تكون رسالته على مدار الساعة، رسالة واضحة، لا لبس فيها ولا غموض ولا توازنات، ولا مراعاة لمصالح.
نبه غازي منذ وقت باكر لخطر غربي تقوده سوزان رايس، ويخطط له المركز الخفي المتواري عن الأبصار، وخسر في هذا الرهان ياسر وباقان وسماهم (أولاد رايس) وأعاد النظر في شعار (السودان الجديد) ولم ينتظر مكافأة بل كان نصيبه في معظم الأحيان التجريح والطعن في ذمته.
اكتشف باكرا ما يسمى الكيل بمكيالين حين كان رئيسا للمنظمة السودانية لحقوق الإنسان، خبر الحيل وعرف كيف يتم التلاعب بهذا الشعار، وكيف يستخدم واجهة لتحرير الشرور، فظل لاكثر من عامين يفضح ما يتوارى خلف هذا الشعار لم يكن يتبنى موقفا لصالح جهة، كان يتبنى موقفه لصالح التراب فهو يتوقد بوطنية مشتعلة تسنده من الانزلاق، وتعصمه من الزلل.
في تشييعه تخالط فرقاء وتقارب خصوم ورد كل خصم التحية لخصمه بأحسن منها.
جاء رئيس الجمهورية ووزير الخارجية والنائب العام وابوعركي البخيت، المحامون والقضاة والصحفيون الكبار ومولانا أبوسبيب، الفتية الصاعدون ومعدو التقارير الصحفية وعبد المحمود أبو، هرعت سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ولمحت من بعيد المرشح الرئاسي الأسبق حاتم السر، وكان فريق المريخ بكامل رئيسه في التشييع.
رحم الله غازي الذي ظل يرسم الوفاق المستحيل في حياته، لكنه انجزه في التشييع!.
أقاصى الدنيا – محمد محمد خير
صحيفة السوداني
