قصة صديقي الكوز..

في منتصف التسعينات كنتُ أسكن في بيت عزابة مع نفر كريم من الأصدقاء، وكان ذلك البيت عبارة عن مؤسسة منضبطة للغاية، بل صارمة في انضباطها وقد أضافت لي الكثير مما هو إيجابي… كان أحد أصدقائنا العزابة “كوزاً” وكان شاباً خلوقاً ،وكنا نناديه بـ “الكوز” وهو متصالح مع هذا اللقب بل ظل فخوراً به ولايزال، في تلك الأثناء غاب عنا فترة من الوقت ولم يخبرنا بوجهته، وبعد بضعةِ أشهرٍ وجدناه يتلقى العلاج بأحد الأجنحة “الخاصة” ذات العناية الطبية الفائقة ، وتحت الرعاية الكاملة للدولة وذلك بعد عودته للتو من مسارح العمليات…بعد تلقي العلاج خرج صاحبنا من الجناح الخاص لإدارة مؤسسة علاجية عريقة ، وأصبح على رأس تلك المؤسسة ، وهو لا يعرف عنها شيئاً فلا هي تخصصه، ولم يتلق تدريباً على إدارة شأنٍ من شئونها، ولم يسمع بها من قبل…ترك صديقنا بيت العزابة والبوش، و”الزير المشروم”، وترك كل شيء إلا مودةً ظل يحتفظ بها لنا جميعاً إلى يومنا هذا، فهو ودود وخلوق…جاء إلى إدارة تلك المؤسسة خلفاً لسلفٍ ذي خبرات متراكمة وتأهيل جيد وقدرات عالية ، سلفٍ أخذه سيف الصالح العام أخْذ منتقم جبار في أيام نحسات…

جاء صاحبنا ” الكوز” إلى إدارة تلك المؤسسة ثمناً لولائه وهو لا يعرف عنها شيئاً ولا يدري ماذا يفعل ، وما هي إلا أيام وليال حتى “ساطها” و”جاطها” بلا خبرة وبلا هدىً ولا كتاب منير فاستسلمت المؤسسة العريقة تحت ركائب خيله “الغائرة” خاضعة ساجدة مستسلمة…

تلك قصة عايشتها بنفسي، وكنتُ قريباً من أحداثها ، استدعيها كلما رأيتُ أوسمعتُ أن صرحاً أو مؤسسةً من المؤسسات العامة قد أنهارت وخرّ عليها السقف فأدرك السبب وأتأمل حال مؤسسات الدولة المنهارة كلها التي على رأس كل واحدة منها “قيادي” فاشل أو فاسد، أو عديم موهبة وخبرة ، استدعي تلك القصة وأتأمل حال الخدمة المدنية التي انكسر عودها، وذبُلت ورودها ، وهجرتها “الفراشات” الجميلة بعد أن احترقن بنور هواها الذي لم يعد ذلك الهوى العذري الصادق الشفيف…

استدعي تلك القصة كلما أرى أو أسمع عن قصة فشل إداري بطله أحد المدللين من أصحاب الولاء، وقد كافأه النظام بـ “المنصب”، مما يعني أن المناصب باتت غنيمة أوهدايا ومكافآت تُقدم لأهل الولاء وليس لخدمة المواطن، انظروا كيف تبدلت المفاهيم ، ولعمري لهو أمر يضع الحليم في فورة الغضب ويجعل ذوي الألباب في حيرة من أمرهم…سأظل أستدعي قصة صديقي “الكوز” كلما أدركت أن أكبر الشركات الحكومية ذات الصيت الكبيرعائدها للخزينة العامة صفر كبير..سأستدعي قصة صديقي “الكوز” اليوم وغداً ونحنُ في غمرة الأزمات وبؤس السياسات لعلها تعطي تفسيراً منطقياً لما نحنُ فيه.. اللهم هذا قسمي فيما أملك..

نبضة أخيرة:

ضع نفسك دائمًا في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.

بقلم :أحمد يوسف التاي
صحيفة الصيحة.

Exit mobile version