(غناينا مات).. في ذكرى رحيل الحوت

1
بداية التسعينيات، الحياة رِيّانةّ والخرطوم طاعمةّ والدنيا بخير، خرج صوته نديّاً وقويّاً، شق عتمة السائد وكسر طوق المستحيل، كان وقتها محمود عبدالعزيز ربيعاً غنائياً ضد سطوة الكلاسيك على الرغم من إزدحام الساحة وقتها بالحناجر الكبيرة والأسماء اللامعة، عاود مسامع الناس في (أجمل فجر) جاءت أغنياته (قادلة) في ثوب الجديد (بي هيبة خايلة عليهو تجر)، فانتبه إليه الناس واعتمدوه أملاً يعدُ الأغنية السودانية بتجربة مختلفة.

٢
جاء صوته متمرداً مسكوناً بشجن جذب الكثيرين إلى حنجرته الثائرة بالعشق والضاجة بالحنين والحاملة لكل مايطلبه المستمعون من عذوبة ونداوة وطلاوة وشموخ، أصبح رقماً فنياً لاتخطئه الأذن التي تبحث عن الغناء الجميل، فسكن وجدان مُحبيه وبات ملحماً من حياة الخرطوم يستوطن (البصات السياحية) ويعيش في سماعات (الكافتيريات) ويتقافز من مسجلات (الملاكي) ويحتل نغمات (الهواتف).
٣
عرفت الخرطوم معه طعم (النجوم) حينما يهدهدون أحلام البسطاء، ويتغلغلون في قلوبهم، ودفاتر طلابهم، دخل الجامعات وأصبح مكوناً ثقافياً تعتمده الموضة عنواناً لعنفوان العشق والشباب بعد أن نصب نفسه ناطقاً باسم المحبين وحادياً لآمال المتعبين.
٤
غنى محمود عبدالعزيز بصوت الناس، ترجم أحاسيسهم فصعد وحده بالشعراء والملحنين على غير عادة أبناء جيله الذين يلجأون للأسماء اللامعة لضمان سرعة الوصول، غنى محمود لمغمورين ولحن له كثيرون لم يكونوا حينها مخضرمين.
كل هؤلاء وأولئك صعدوا بتجربة محمود _كان (فناناً) في اختيار النصوص التي تدخل القلب وتستوطن فيه، لذا فإنه رفد الساحة الغنائية بمنتجات جديدة بأنفاس مختلفة، استطاع أن يطوعها عبر صوته المترع بالشجن والقادر على الاحتواء لتصبح أغنيات نجوم لم تعدها ورش متعهدي الفنانين ومالكي صك الرعاية ومحرري شهادات الوصول السريع.
قدم تجربة غنائية مكنته من أن يكون صاحب مدرسة بمواصفات غنائية خاصة، مدرسة بمربديها من المقلدين ومدمنيها من المستمعين، فاستحق الزيادة والشكر على الإضافةعلى الرغم من صغر تجربته الفنية في تسعينيات القرن الماضي.
٥
تميز بكاريزما شعبية أوجدت له صورة متواضعة لم تضخمها النجومية واستطاعت مكونات الشخصية السودانية أن تساعده كثيراً في التواصل مع الآخر بطابع عفوي غير متكلف ومضت به رغم الصيت والبريق لاختيار شخصية(ود البلد) المهموم بقضايا أهله وأصدقائه ووطنه، نضجت هذه بقطع المسافات بسرعة فائقة إلى منصة تتويجه كأحد رواد الأغنية السودانية.
٦
محمود كان معذباً في ذاته، يستغرقه تأمل التجربة بضمير نظيف وروح خفيفة استطاعت أن تغادر جسده مُحلقة في عالم حُبه لمعجبيه ومتجهة بإخلاص نحو مراقي الزهد الصوفي والهدي النبوي، وكأنه يستعجل استكمال رحلته إلى الجميع بوعي قربه أكثر من الناس وفتح بينه وبين معجبيه طاقة من الجنون اليومي.
٧
محمود كان أميز مصنع للفرح السوداني وأجود منتج لشهد الأغنيات التي كانت تتقاطر بكثافة خلال حقبة التسعينيات لكنها لم تكن تعبر بالطبع عن (فورة الاندروس)، فقد بقيت شاهداً على تجربة كانت مختلفة في كل شيء، إذ مازال محمود يحتفظ بشفرة تمنحه البريق كل يوم، وتجمر صورته بلهيب الشوق الذي يجعل من تجربته ذهباً من (العيار الثقيل)
٨
محمود كون حزباً من المحبين (الحواتة)، وقاعدة من المعجبين المتعصبين لمحمود صوتاً وفكرة، وهذا قدر لم يُتح لفنانين آخرين ملء السمع والبصر، نجوم الغناء في السودان ينتهي الارتباط بهم بانتهاء مراسم الحفل ، غير أن دائرة مدمني محمود تتسع لحياة اجتماعية وتواصل كبير، يعرفهم ويعرفونه، يفهونه بالإيماء والإشارة، تجده وسطهم وكأنه شيخ لطريقة صوفية يتحلق حوله مُريدوه.
يبقى القول إن هنالك أشخاصاَ حينما يرحلون يأخذون معهم ملح الحياة وسُكرها لتصبح بعد ذلك ماسخة منزوعة النكهة والطعم، حينما رحل مصطفى سيد أحمد عن الفانية دخل محمود بقوة وأنقذ حياة السودانيين من الفراغ واليتم العريض، ويظل السؤال.. من للغناء بعد محمود؟ ومن بمقدوره تعويض هذه(الكاريزما) عالية التجويد والتطريب والنقاء، يبدو أن( زمنا فات) لأن (غناينا مات)…
من أرشيف الكاتب

صحيفة اليوم التالي

Exit mobile version