سر الابتسامة والزي الأبيض وقلم الباركر .. كواليس جلسة انقلابية مُؤجّلة (1)

في أولى نهارات مُحاكمة رموز نظام الإنقاذ، المكنى بالثورة عند أنصارها، المُسمّى منذ عام ونيف بالنظام البائد، شاهدناهم لأول مرة على متن حافلات صغيرة، بزجاجٍ مُعشْق، كانت تشق طريقها بصعوبة إلى داخل معهد التدريب القضائي، تجر خلفها رتلاً من السيارات العسكرية وعربة إسعاف، الباحة مُحاصرة تحت الإجراءات الأمنية المُشدّدة، والحيِّز مُحتقن بالزحام ألمتعجل، تئن أصوات التكبير وزخم اللحظة التاريخية المتأرجحة، تئن بشدة، وقد استدار الزمان كهيئته، يا للصدفة. استدار ليبعث من جديد على شاشة التلفزيون القومي مسلسل “الشاهد والضحية”، ويبعث أيضاً المحامي الضليع والشاعر عبد الباسط سبدرات، مُدافعاً عن إخوان الأمس، في مُواجهة رفاق الماضي البعيد، ولسان حاله “رجعنالك وكيف نرفض رجوع القمرا…”، كل ذلك من داخل المحكمة التي تستمد أهميتها من كونها الأولى لقادة انقلاب ناجح في جمهورية وحيد القرن!
كان الرئيس المعزول هو الوحيد الذي يرتدي ثوب السجن الأبيض، وهو أشبه برجال المرور اليوم، أو بالأحرى زي البحرية عوض زي السجون البُنى، بدلة بأكمام قصيرة، يرنو من فتحة جيبها، قلم باركر فرنسي فاخر وساعة سويسرية، وشعر أبيض على مفرقيه، يذكر هذا البياض كله بأوراق أمل دنقل في الغرفة (8) وكان البقية معظمهم، يرتدون الجلاليب والعمائم البيضاء والشالات المطرزة كأنّه صباح العيد، ربما لأنّهم متُّهمون وليسوا مدانين بعد، وكان لافتاً تجاذبهم أطراف الحديث قبل بداية الجلسة، بقهقهات مكتومة .
فيما أُعلن عن (28) متهماً، تم توزيعهم على هيئات دفاع صغيرة، ربما ليسهل تنويع الطلبات والالتماسات، كلاً على حِدة، وقد بلغت هيئة الدفاع نحو (198) في مواجهة لجنة التحقيق التي يقودها سيف اليزل سري وثلاثة آخرين، إلى جانب العميد جمال الخليفة.
كانت سماء الخرطوم تنذر بمطر يستعصى على الهطول، والسُّحب تركض في الفضاء الرَّحب ركض الخائفين، والهواء أكثر خِفّةً، بينما رؤية الحرس القديم تبدو صعبة تحت الضوء الذاوي، هنالك في القاعة التي أُعدّت خِصيصاً لتسع كل هذا العدد، وتفيض بالحُضُور، وقد نصب قبالة القاضي قفصاً حديدياً طويلاً كالمدرج، جلس عليه جملة المقوضين للنظام للدستوري وفقاً للبلاغات ضدهم، وعن شمالهم هيئتا الدفاع والاتهام والأسر وكاميرات التلفزة ورجال الأمن بأزياءٍ مُختلفةٍ، فبدأت القاعة كطائرة عملاقة وطاقم قيادة يحدق في الركاب.
ها هي تقلع، أخيراً بعد عامٍ ونصفٍ وطول انتظار، والقاضي الذي لم يُسمِ نفسه ابتداءً، حين قبض على شيبته ووقاره، إنه قاضي المحكمة العليا عصام محمد إبراهيم، المُعيّن من رئيس القضاء، يعاونه تقريباً محمد المعتز وأخر، مع ذلك فهو قاضي سلطاته، هنا سلطات محكمة عامة خاضعة للاستئناف والطعن.
مع بداية الجلسة، حدثت ربكة تسبّبت في تأجيل المحكمة إلى ما بعد العيد، نسبةً لغياب بعض مُمثلي الدفاع، لجهة ضيق المكان، ونظراً لطلبات تتعلق بالاحترازات الصحية دفع بها المحامي بارود صندل الحاضر عن متهمي المؤتمر الشعبي، أو بتأصيل عراب الحركة الإسلامية، متهومي الشعبي، وربما لو كان متواجداً لمنح هذه المحكمة زخماً هائلاً، وتغيّرت أشياء كثيرة، فهو صاحب الفكرة والمشروع، حيث يرقد هنالك في ضاحية بُرِّي، الغائب الحاضر حسن عبد الله الترابي، حين غفى للأبد، وتركهم يتنكبون جادة الطريق، كاليتامى، أو أن كلماته كعرائس الشموع، يحاول تلامذته المشي على ضوئها، وبتدرج أيضاً يمثله هنا علي عثمان محمد طه، الذي آثر أن يرتدي ابتسامة غامضة ساخرة، طوال ساعة الجلسة، لتسبح في ضوء الكاميرات، وتقول بشيء من الإيحاء، إنّ الأمر ليس كما يبدو.
ولعل أغرب ما في الجلسة هو غياب العميد عثمان حسن البشير الذي أُطلق سراحه بالضمانة، وهو الضابط الأول في التنظيم الإسلامي، حين قررت الحركة وقتها تغيير النظام الديمقراطي بالقوة، لكنه اشترط وتردد، فأوكلت المهمة لعمر البشير، وهو ما جعل محامي الدفاع بارود صندل يطالب بإطلاق سراح علي الحاج والسنوسي بالضمانة، لأسباب صحية وعامل السن، مُستغرباً أن يشدد على المدنيين ويُخلي سراح بعض العسكريين في مجلس قيادة الثورة أنذاك، لكن القاضي رفض ذلك، متعللاً بالقانون نفسه، وهو أن تهمة تقويض النظام الدستوري تصل إلى السجن المؤبد أو الإعدام، ولا يجوز إطلاق سراح شخص بالضمانة تهمته على هذا النحو، مشدداً على ضرورة الحبس التحفظي، بل ذهب أكثر من ذلك بأن المحكمة لا تؤيد تدابير النيابة في الإخلاء بضمانة بالخصوص، وطلب بحزم وقف الأحاديث الجانبية.
وردّ القاضي أيضاً على طلب النيابة استدعاء بقية المتهمين في انقلاب 1989 بأنّ الأمر سينظر إليه في وقته، فجاءت الإشارة إلى (6) متهمين، ثلاثة منهم بالخارج وثلاثة أخفوا أنفسهم، دون تحديد الأسماء، ولا أحد يعرف بالطبع من المقصود، ربما كان علي كرتي وعمر سليمان وعيسى بشرى أو قوش وبقية ما يُعرف بـ”السواقين”، علماً بـأنّ الضباط الذي شاركوا وقتها يقدر عددهم بـ”34″، لكن العمل العسكري اتسع للألاف من داخل التنظيم الإسلامي، وهو لغزٍ مُحيِّر مازال. وهنا ينبغى الإشارة إلى أن المحامي شوكت حاضر عن عبد الرحيم محمد حسين والفريق النو، بينما عمر سليمان ممثل الدفاع عن التجاني آدم الطاهر، ومحمد عبد الله شيخ الدين عن اللواء طبيب الطيب إبراهيم محمد خير، ومحمد الحسن الأمين عن نافع علي نافع وأحمد علي الفششوية والزبير أحمد الحسن، أما الأسماء التي ظهرت لأول مرة تقريباً من المتهمين، محمد الطيب الخنجر، محمد عوض الكريم أبو سن، محمد محمود جامع، اللواء عبد الله عبد المطلب، وهاشم محمد أحمد، وكان لافتاً أن بعض المتهمين ليسوا ممثلين بهيئة دفاع، انسل صوتهم من الداخل، على رأسهم يونس محمود، الذي لم يحضر موكله، بينما قطع عثمان أحمد حسن بالقول “لا أرغب في محامٍ” وكذلك فيصل علي، وقال اللواء عبد الله عثمان يوسف إنه سوف يحضر محامياً ليترافع عنه.
كان سبدرات يقدم دفوعاته الأولى، ويُعدِّد أسماء الكشوفات المرفقة من هيئة الدفاع، بروح قانونية وليست شاعرية هذه المرة، وقد أعد نفسه لمهمة كبيرة، سوف تعيد إليه الأضواء السياسية بعد انحسار، لكنه ليس هو الوحيد هنا، ثمة أبوبكر عبد الرازق وكمال عمر، المحامي المُثير للجدل، وثلاثة عقود تحت نظر القاضي الذي قال في ختام الجلسة إنه سينظر في كل الطلبات وقادرٌ على إدارة جلسات المحاكمة، وحريصٌ على أن لا يُضار أحد، ولا يتوخى غير العدالة.
في الخارج، كانت الأجواء مشحونة بالانفعالات، عقارب المنبه التهمت لحظات الانتظار التهاماً، ورُفعت صور ضباط البعث الذي أعدموا في رمضان عشية فشل انقلابهم، رفعتها بعض أسرهم في الفناء الخارجي للمعهد، إلا أنّ الغلبة في الحضور كانت لأُسر المتهمين بالداخل وهيئة الدفاع، حد أنها ثارت في وجه المحامي معاوية خضر الأمين عضو هيئة الاتهام الذي هتف بالقرب منهم، فطاردته هتافاتهم ما اضطره للعودة والاحتماء بالشرطة.
وها أنذا أيضاً أعود إلى السياج الحديدي، اقتربت من علي الحاج الذي كان يجلس إلى جانبه السنوسي، بدأت السنوات تزحف على ملامحه، بينما تآكل جسد عبد الرحيم محمد حسين، من خلفهما عوض الجاز الذي كان يتمعّن في الحضور خارج محسبه، اقتربت بنت في عقدها الثاني، والتفت إليها علي عثمان، وبدا يتجاذب معها أطراف حديث قصير جداً وهامس، وحياها باسمها، اقتربت منه أنا أيضاً، وسألته عن المحكمة وإصابته بـ”كورونا” ومصادرة المنزل الذي كانت تقيم فيه أسرته وإن كان سيترافع عن نفسه؟ فرد قائلاً : (…..).
نواصل

عزمي عبد الرازق

Exit mobile version