ليست الغاية من رضا الأولياء وموافقة العُرف في الزواج التسلّط والوقوف أمام رغبات الأفراد، وإنما الغاية أن يكون هذا الرضا وتلك الموافقة بمثابة شهادة تقدير وأمانة ثقيلة تحثّان طرفي الزواج على التحلّي بالمسؤولية بدافع الوفاء بالعهد أمام نفسيهما أولًا وأمام الأهل الذين باركوا هذه الزيجة ثانيًا وأمام المجتمع الذي أعطاهم الشرعية ثالثُا.
ثم إن موافقة الأهل ومباركة المجتمع زيجة ما، تضمنان الاعتراف والتقبّل الكاملين للذرية الناتجة عنها. والعكس إن لم يحدث هذا ستُفرض على الطرفين عقوبات مباشرة وغير مباشرة لا تقف عند تدني سمعة شخصيهما حاضرًا وإنما تمتد إلى التوجس من الارتباط بأبنائهما مستقبلًا. وليس هناك عاقلٌ يحشر نفسه في معركة خاسرة كهذه.
ومما يجب الانتباه له جيّدًا فيما يخص مصدر شرعية الزواج؛ نقول إن شرعية الزواج تستمد قوّتها في الأساس من المجتمع الذي ينتمي إليه طرفي العلاقة؛ لأنه هو الذي يمسك بزمام ثقافته وأعرافه ويوزّع على أفراده صكوك التقبّل والرفض بناءً عليها.
ولو دققنا النظر في تعاليم الشرائع السماوية في مسألة الزواج سنجدها توكل إلى المجتمع مهمة الحفاظ على نسيجه وتؤيده في ذلك ببعض التشريعات؛ باعتباره الكتلة الجماعية التي مهما شابتها الشوائب ستظل نواتها تتناقل بذرة الخير التي تعبّر عن الفطرة والحكمة وتفضي إلى صون كرامة الإنسان وحمايته من رغباته المنحرفة قدر الإمكان. ووسيلتها التي تستعين بها في هذه المهمة هي العقائد والأعراف والتقاليد الاجتماعية والدينية الحاكمة.
على سبيل التوضيح: لو تزوّج اثنان بموافقة الأهل ومباركة المعارف والجيران ولم يسجلا الزواج بوثائق رسمية فلن يواجه هذين العروسين مشكلة كالتي سيواجهها من وثّق زواج لكنه لم يُشهره أمام الملأ. وعليه فإن معرفة الناس وموافقتهم هي أساس الاعتراف وليس مؤسسات التوثيق، وتلك هي الروح التي تقوم عليها شروط صحة الزواج شرعًا وقانونًا.
وخلاصة القول أن تراجع سلطة المجتمع في هذا الشأن ستُشعر الفرد بتحررٍ مفرط يؤدّي به إلى اتّباع أهوائه والهرب من كل ما يمتّ للمسؤولية بصلة، كما نرى في بعض المجتمعات وكما نعلم من خواتيم الزيجات العنترية.
ونافلة القول أن كفّة الفرد كلما رجحت ستعني بالضرورة انهيار قيم مجتمعه وابتعاده هو عن فطرته نتيجة لغياب الرقيب الخارجي. لكن هذا الفرد الطاغي -سواء كان فردًا واحدًا أو تيارًا كبيرًا- سيعود إلى الطريق القويم بعد تجربة مؤلمة يكون قد فقد فيها كرامته وإنسانيته وتنكّب فيها الطريق إلى مُرادات الله في شرائعه التي تنظّم شؤون خلقه. ولكم في المجتمعات الرأسمالية الفردانية عبرة يا أولي الألباب.
زرياب الصديق
