حيدر معتصم يكتب: سودان الثورة.. هل من عقلاء؟

د. حيدر معتصم
ظلت السياسة في السودان بلا سياسة على مدى عقود طويلة منذ تأسيسها الأول و بلا سقوف أو ثوابت وطنية و ظل معيارها الأوحد هو الخصومة و المزايدة التي لا تحدها حدود و لا معايير أخلاقية أو وطنية بل تعتمدكليا على البرامج التكتيكية القصيرة و المؤقتة و تخلو تماما من البرامج الإستراتيجية الطويلة المرتكزة على التصورات و الرؤى و الأفكار ومن الطبيعي أن يؤدي غياب الأفكار إلى غياب القانون و غياب القانون يؤدي تلقائيا إلى غياب الأخلاق و غياب المسئولية الوطنية، و على سبيل المثال لك أن تتخيل مباراة في كرة القدم بدون حكم أو بحكم يحكم على أهوائه دون رقيب و بدون قانون فتلك هي الممارسة السياسة في السودان على مدى سنين طويلة من الفعل و الفعل المضاد و للأسف الشديد فإن أسوأ ما فعلته الأحزاب هو أن تبذل أكثر جهدها و تقدم أميز كوادرها من أجل تجميل أخطائها و إخفاقاتها و تقبيح و شيطنة فضائل و إنجازات الشركاء السياسيين الذين هم في العرف السياسي السوداني خصوم و أعداء و ظل إهتمام هذه الأحزاب بالخصومة السياسية أكثر من إهتمامها بصناعة الأفكار و تطوير الأداء وفقا لثوابت وطنية متفق عليها و لذلك قل ماتجد في تاريخ السياسة السودانية تحالفات دائمة و مستقرة قائمة على المصالح الوطنية و إنما تحالفات هشة تجمعها و تفرقها الأجندات الحزبية و المصالح أو الأهواء الشخصية و الأجندات الخارجية و تغلب على هذه التحالفات سلباً أو إيجاباً الأحكام الكلية التعسفية القائمة على العصبية الحزبية أو الأيدلوجية و إبتعادها عن العلمية المعيارية و لنا في تجربة ثورة ديسمبر و ما تبعها من أحداث و ماعصف بتحالفاتها السياسية الهشة خير شاهد و دليل، و قد ظل الحديث و مازال عن الأحداث و عن الحكم على تجربة الإنقاذ عبارة عن أحكام كلية جزافية تنقصها الدقة والأمانة العلمية و قد إنعكس ذلك تلقائيا على أداء حكومة الثورة و عاد المشهد إلى سيرته الأولى حربا ضروسا بين مؤيدين و معارضين و مقارنات متخمة بالتسطيح السياسي و تزييف الحقائق هنا و هناك، أما الشيئ الوحيد الذي تغير هو تحول المعارضين إلى مؤيدين و المؤيدين إلى معارضين.
يبدأ الإصلاح السياسي الناجح دائما ببناء مجتمع مدني راشد بإتباع المعايير العلمية الدقيقة في الأحكام عبر المراكز البحثية المتخصصة كرافد هام من روافد المجتمع المدني الضرورية في التقييم و التقويم و المتابعة و مثلاً فإن الحديث عن أن الإنقاذ قد دمرت السودان حديث تنقصه الدقة و لايرتكز على معايير علمية دقيقة و المتعارف عليه عالميا أن تلك مهام تضطلع بها مؤسسات متخصصة يقوم عليها خبراء متخصصين غير خاضعين للمد و الجزر السياسي و يتعاملون مع الأمر من خلال معلومات إحصائية دقيقة و طرق و أساليب متفق عليها عالميا في التحليل و القياس و إستخلاص النتائج و على نفس القدر فإن الحديث عن أن الإنقاذ أتت بما لم تأت به الأول أيضا حديث تنقصه الدقة و يقوم على الإنفعال العاطفي و تسجيل النقاط وتحقيق أجندات سياسية هدفها تجريم الآخر في إطار الصراع السياسي اليميني اليساري السالب و الغير محدود بسقوف وطنية و في تقديري فإن الوقت مازال مبكراً للحديث عن أين أنجزت الإنقاذ و أين أخفقت و لنا في تجربة نوفمبر و أكتوبر عظة و عبرة و من عجائب القدر أن تجاربنا تتكرر حتى في الكيد السياسي بعد الثورة فما رشح من دعاية سياسية و حديث عن فساد تشيب له الولدان بعد سقوط نوفمبر عبود ومايو النميري ضد عبود و النميري و حاشيتيهما يشبه تماما بالشخطة و النقطة ما حدث بعد سقوط البشير، و لكن سرعان ما إتضح الأمر بعد إنجلاء غبارالمعركة و بعد أن حققت الدعاية السياسية أهدافها و صحا الناس على حقائق تتناقض تماما مع تلك الدعاية السياسية و تتحدث عن عكس ما رشح في الاسافير أثناء الهياج الثوري و مات عبود فقيرا و كذلك النميري و هاهي الوسائط الآن تتحدث عن نزاهتهما و عن إنجازاتهما و تتحدث بهدوء عن أين تكمن الإنجازات و أين تكمن الإخفاقات في فترة النظامين.
ظل المجتمع السوداني لما يقارب المئة عام يسلم زمام أمر مقوده للأحزاب السياسية و قدمت الاحزاب طوال هذه السنين بكل المقاييس أسوأ تجربة يمكن أن تقدم و هذه التجربة البائسة هي حجر الزاوية فيما وصل إليه السودان من تردي و إنحطاط في كل جوانب الحياة و ما نشاهده الآن من عبث بإسم السياسة هو دليل كافي لإعلان موت الأحزاب و غياب السياسة عن الساحة السودانية، و في ظل ما يكابده السودان من ظروف بالغة التعقيد على عقلاء المجتمع السوداني أن يضطلعوا بدورهم و تحمل مسؤلياتهم كاملة في تصفير العداد و إعادة بناء الدولة السودانية من خلال تأسيس مجتمع مدني قادر على تحمل المسؤولية و حراسة مقدرات الوطن… نواصل.

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version