حليم: لا يُمكن تسليم السودان من جديد إلى مجموعة من النشطاء والناشطات الأغبياء

ماذا تعني ثورة بالنسبة لبلد متعددة الجيوش، ينتشر فيها السلاح، والصراعات السياسية والاجتماعية والدولة فيها هشة ومفككة أساساً؟
ثورة ديسمبر استطاعت بفضل انحياز المؤسسة العسكرية و بقاءها موحدة و متماسكة، أن تحافظ على وحدة البلد. تحقق سلام جزئي و دخلت بعض الحركات المسلحة إلى السلطة. ومع ذلك هناك مشكلة في الشرق ما تزال بحاجة إلى حل، و مشاكل في الغرب، و غير ذلك.
على الرغم من نجاح المؤسسة الأمنية في الحفاظ على وحدة و تماسك البلد، و هذا هو النجاح الوحيد للثورة التي أطاحت بنظام الإنقاذ، و هو نجاح كبير حتى الآن بالنسبة لمصير ثورات أخرى، هُناك فشل سياسي كبير يتمثل في غياب مشروع وطني متفق عليه، و هذا الفشل هو ما أوصلنا إلى هذه اللحظة. و لكن بدلاً من التفكير في خلق هذا المشروع عبر الحوار و التوافق السياسي، تفكر قوى تسمي نفسها قوى الثورة و ديسمبريون و لجان مقاومة و ما شابه في ثورة جديدة، لا يملكون لها سوى الهتافات و الصراخ و الرقص و الغناء و تفكيرهم لا يتجاوز بعض شوارع الخرطوم و أحياء الخرطوم.
أكبر تحدي يواجه البلد الآن هو بقاءه و وحدته، لا يملك ذوي الحناجر الكبيرة هؤلاء أي إجابة لهذا التحدي، فهم لا يعترفون بأي وجود خارج “قوى الثورة”، إذا لم تكن معهم، فأنت غير موجود.
أكبر مأزق سيقع فيه ذوي الحناجر الكبيرة هؤلاء هو منحهم السلطة كاملة. تصور أن الجيش قرر تسليم السلطة كاملة لقوى الثورة، الآن. من سيستلمها و ماذا سيفعل بها؟
معارضة الإنقاذ كلها تفاجأت بسقوط النظام و لم تعرف ماذا تفعل و يبدو أنها ما تزال متفاجئة حتى الآن، و لولا وجود “اللجنة الأمنية لنظام البشير” و مؤسسة الجيش لا أحد يعرف كيف سيكون السودان على يد هؤلاء. ماذا لو قام تجمع المهنيين في ذلك اليوم بإعلان حكومة و استلام السلطة؟
و لكن في الحقيقة أحزاب قحت وبكل بؤسها تمثل قمة النضج السياسي بالنسبة لمعسكر ثورة ديسمبر عند مقارنتها بالهرمونات التي نراها الآن. موقف التفاوض و الشراكة مع العسكر كان هو الموقف الصحيح، و ذهبت إليه هذه الأحزاب لأنها من واقع خبرتها السياسية تدرك أن الاستمرار في المواجهة مع العسكر يقود السودان إلى التفكك و الانهيار، و الشراكة كانت أفضل خيار، عكس بعض الأغبياء الذين يعتقدون انهم بالصراخ يستطيعون هزيمة الجميع و الاستيلاء على السلطة. المشكلة أنها، أي أحزاب قحت، لم تكن جادة و لم تمض في طريق التسوية السياسية إلى النهاية و أرادت أن تستقوي بالعسكر بالإضافة إلى عدم امتلاكها للرؤية السياسية، و لكنها كانت حكيمة بما فيه الكفاية لكي تدرك أن المواجهة الصفرية هي أمر خطير و يجب تجنبه، و هذا ما لا يدركه ذوي الحلاقيم الكبيرة.
نموذج الثورة في السودان واحد مكرر ممل و غبي؛ مظاهرات ثم انقلاب عسكري، هذه هي الثورة في السودان. و هذا هو السيناريو الذي تسعى له الحناجر الكبيرة و لكن لا تعرف ماذا بعد. لا أحد يجرؤ على التفكير مثلا كيف سينقلب الجيش على قيادته و يخوض حرباً مع الدعم السريع و ربما أيضا مع الحركات المسلحة الموقعة على السلام، لا أحد يعرف كيف ستنتهي ثم يقوم بعد ذلك بتسليم السلطة كاملة إلى الحلاقيم الكبيرة و يذهب إلى الثكنات.
الخطأ الذي وقع فيه الجيش بعد وثيقة كورنثيا لا يُمكن أن يتكرر مجدداً. لا يُمكن تسليم السودان من جديد إلى مجموعة من النشطاء و الناشطات الأغبياء و إقصاء كل المكونات السياسية و الاجتماعية و تعريض السودان لخطر التفكك أكثر مما هو معرض الآن. هذا لن يحدث و لا يجب أن يحدث.
مشكلة البلد حلها ليس في الثورة، مشكلة السودان في حوار وطني شامل و صادق و جاد. يجب أولاً قبل التفكير في الصعوبات و العوائق أمام هذا الحوار أن نؤمن بالمبدأ أولاً، ثم بعد ذلك نناقش ما هي هذه الصعوبات و هذه العوائق. رفض الحوار و التوافق و السعي لتأزيم الأوضاع لن يفيد و لن يحقق أي نتيجة للذين يراهنون على ذلك، بل سيؤدي لتدمير الجميع.

حليم عباس

Exit mobile version