أيوب صديق يكتب: جيلٌ عندنا يتلوا القرآنَ بألحانِ الغناء والدوبيت

أتطرق اليوم لشيء هو عندي أهمُ بكثير من تناول أمور السياسة في بلادنا، التي تتحكم في كثير من متعاطيها، أهواءُ نفوسهم التي لا تفرق بين الوطن وبين أنظمة الحكم فيه، فيسيئون لوطنهم في شخص نظام يخالفونه المذهبَ أو النهجَ الذي ينهجه، والأمثلة على ذلك كثيرة، وبالذات في حاضرنا، الذي أخذ ينطبق علينا فيه قول الشاعر:

ربَ يومٍ بكيتُ فيه ولما صرتُ في غيره بكبتُ عليه

وقول شاعر آخر:

دعوتُ على عمرٍو فمات فسرَّني

وعاشرتُ أقوامًا بكيتُ على عمرِو

أما ذلك الشيءُ الذي أتناوله اليوم، فهو أنني أخذتُ ألاحظ أن بعض قراء القرآن الكريم عندنا هذه الأيام، أخذوا يخرجون بقراءاتهم إلى أنواع من التغني المصطنع لدرجة الابتذال، بحيث يجعلونها مشابهة في تنغيمها المبالغ في اصطناعه إلى الغناء والدوبيت أو الدوباي، كما نسميه في قرانا وبوادينا. والواقع أن هذا الطريقة في القراءة التي أنا بصددها، ليست بجديدة، بل هي قد ابتدأها شيخ قارئ في ثمانينيات القرن الماضي إن لم تخني ذاكرتي، فأخذ يقلده بعضُ الشباب في طريقته، ثم أخذ بعضُهم من ثَمَ يطوعها لطرائق أخرى في القراءة نسجًا عليها. هذا وإن تباينت طرائق القوم في تلوينها وتنغيمها علوًا وهبوطًا، فإنها في المحصلة خروج بقراءة القرآن إلى التشبه المذموم المبالغ فيه بأنغام وألحان الغناء أو الدوبيت، مما يخرج بالقراءة عن وقارها المطلوب.

قد ينبري أحدُهم فيقول لي لقد أُمرنا بالتغني بالقرآن، فأقول له نعم، إنني أعلم ذلك، فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يتغن بالقرآن – وزاد غيره – يجهر به). وفي ذلك يقول أهل العلم: إن ظاهر اللفظ أن المراد بالتغني هو تحسينُ الصوت بالقراءة، وليس معنى تحسينِ الصوتِ القراءة بالألحان، بل المرادُ تحسينُه على وجه لا يخرج إلى حد التطريب المذموم، مع التخشع في القراءة وترتيلها. وقال في ذلك ابن القيم :”وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوغوها، ويُعلم قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب ويُحسنون أصواتهم بالقرآن ويقرؤونه بشجىً تارة وبطرب تارة وبشوق تارة …) إلى آخر قوله. وأنا هنا لا أعني صحة القراءة من تجويد وغيره لا، بل أعني الأداء الصوتي المبالغ فيه فحسب. فالذي يُسمعنا إياه بعضُ هؤلاء القراء عندنا هذه الأيام، شيء يخرجون به من وقار القراءةِ المطلوبِ إلى الحان الغناء المحض، بل يشعرونك بأنهم يتبارون في ذلك، وتُصدم عندما تجد أن الذي ينطقون به هو قرآن.

الانتباهة او لاين

محتوى مدفوع

(11465) طالب وطالبة يكملون عملية التقديم الإلكتروني للجامعات

الرئيسية/المقالات
أيوب صديق يكتب: جيلٌ عندنا يتلوا القرآنَ بألحانِ الغناء والدوبيت
أكتوبر 15, 2022241
أيوب صديق

أتطرق اليوم لشيء هو عندي أهمُ بكثير من تناول أمور السياسة في بلادنا، التي تتحكم في كثير من متعاطيها، أهواءُ نفوسهم التي لا تفرق بين الوطن وبين أنظمة الحكم فيه، فيسيئون لوطنهم في شخص نظام يخالفونه المذهبَ أو النهجَ الذي ينهجه، والأمثلة على ذلك كثيرة، وبالذات في حاضرنا، الذي أخذ ينطبق علينا فيه قول الشاعر:

ربَ يومٍ بكيتُ فيه ولما صرتُ في غيره بكبتُ عليه

وقول شاعر آخر:

دعوتُ على عمرٍو فمات فسرَّني

وعاشرتُ أقوامًا بكيتُ على عمرِو

أما ذلك الشيءُ الذي أتناوله اليوم، فهو أنني أخذتُ ألاحظ أن بعض قراء القرآن الكريم عندنا هذه الأيام، أخذوا يخرجون بقراءاتهم إلى أنواع من التغني المصطنع لدرجة الابتذال، بحيث يجعلونها مشابهة في تنغيمها المبالغ في اصطناعه إلى الغناء والدوبيت أو الدوباي، كما نسميه في قرانا وبوادينا. والواقع أن هذا الطريقة في القراءة التي أنا بصددها، ليست بجديدة، بل هي قد ابتدأها شيخ قارئ في ثمانينيات القرن الماضي إن لم تخني ذاكرتي، فأخذ يقلده بعضُ الشباب في طريقته، ثم أخذ بعضُهم من ثَمَ يطوعها لطرائق أخرى في القراءة نسجًا عليها. هذا وإن تباينت طرائق القوم في تلوينها وتنغيمها علوًا وهبوطًا، فإنها في المحصلة خروج بقراءة القرآن إلى التشبه المذموم المبالغ فيه بأنغام وألحان الغناء أو الدوبيت، مما يخرج بالقراءة عن وقارها المطلوب.

قد ينبري أحدُهم فيقول لي لقد أُمرنا بالتغني بالقرآن، فأقول له نعم، إنني أعلم ذلك، فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يتغن بالقرآن – وزاد غيره – يجهر به). وفي ذلك يقول أهل العلم: إن ظاهر اللفظ أن المراد بالتغني هو تحسينُ الصوت بالقراءة، وليس معنى تحسينِ الصوتِ القراءة بالألحان، بل المرادُ تحسينُه على وجه لا يخرج إلى حد التطريب المذموم، مع التخشع في القراءة وترتيلها. وقال في ذلك ابن القيم :”وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوغوها، ويُعلم قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب ويُحسنون أصواتهم بالقرآن ويقرؤونه بشجىً تارة وبطرب تارة وبشوق تارة …) إلى آخر قوله. وأنا هنا لا أعني صحة القراءة من تجويد وغيره لا، بل أعني الأداء الصوتي المبالغ فيه فحسب. فالذي يُسمعنا إياه بعضُ هؤلاء القراء عندنا هذه الأيام، شيء يخرجون به من وقار القراءةِ المطلوبِ إلى الحان الغناء المحض، بل يشعرونك بأنهم يتبارون في ذلك، وتُصدم عندما تجد أن الذي ينطقون به هو قرآن.

لقد كان لنا بالأمس قراءُ ذوو أصواتٍ حسان وتلاواتٍ عذبة، ولكل منهم طريقته، الخاصة به وتنغيمه الخاص به في غير تكلف، مما يحمل المرءَ على الإنصات إليه والخشوع من فرط جمال التلاوة. وأذكر هنا منهم الشيخ عوض عمر، والشيخ محمد بابكر، والشيخ صديق أحمد حمدون، والشيخ أحمد عبد الكريم الأزهري، والشيخ محمد نور حسن عليهم رحمة الله. ومن المتأخرين أذكر الشيخ الزين محمد أحمد، والشيخ عبد القادر الفادني وغيرهما أمد الله في أعمارهم في خدمة كتاب الله، فجميعهم لم يخرجوا بتلاوة القرآن إلى ما نسمعه اليوم من بعضهم من تكلُّفٍ تنغيمي مبالغ فيه.

وكذلك من يستمع إلى كبار قراء القرآن المصريين المشهورين، مثل الشيخ محمد رفعت، والشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمود على البنا، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ محمد صديق المنشاوي وغيرهم، يجد لهم تنغيمهم وتعاملهم الصوتي المتعارف عليه في بلادهم، وفي إطار ذلك لكل منهم طريقته الخاصة، التي تميزه عن الآخرين، ولكنهم جميعاً يحافظون على وقار القراءة ولا يخرجون بها إلى شيء من تقليد الأغاني.

وكذلك تجد في طرائق قراء الحرمين الشريفين؛ المشهورين كالشيخ سعود الشريم، والشيخ عبد الرحمن السديس، والشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي، والشيخ سعد الغامدي، والشيخ ماهر المعيقلي والشيخ عبد العزيز الثبيت، وغيرهم، كذلك لهم طريقتهم السائدة في الجزيرة العربية، ولكن لكل منهم طريقته الخاصة به في تنغيم القراءة، مع محافظتهم على وقارها وعدم الخروج بها عن ذلك الوقار.

والشيء بالشيء يُذكر، فتقليد ألحان الغناء لحق كذلك بالأذان، فأنت تسمع بعض من المؤذنين هذه الأيام، فتجده يبالغ هو الآخرُ في اصطناع التنغيم، وكأنه في فاصل من الدوبيت أو في رميةٍ من الرَمياتِ لأغنية لاحقة. وقد كان قصبُ السبق في تقليد الأغاني لجيل من المُدَّاح، الذين يمدحون النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أخذوا يقلدون ألحان الأغاني تقليدا كاملا. وأذكر أنه عندما نظمت وزارة الأعلام عندنا في السودان في سبعينيات القرن الماضي، مهرجانًا للمدائح النبوية، وأتت بعددٍ من المداح والمنشدين، وخصصت لذلك ليلة في المسرح القومي بأم درمان، فمدح من المداح بألحان المديح المألوفة، حتى اعتلت المسرح مجموعة، إن لم تخني الذاكرة كانت لأولاد البرعي، ومدحوا قصيدة مطلعها:

الله الله، الله ألله الله ، الله الله، (كذا…. رسول الله) فقد غاب عني اللفظ قبل الأخير لختام البيت، فوضعت ذلك بين قوسين. ولكن في تلك القصيدة فالذي لم يفارق ذاكرتي قطُ هو أنها كانت على لحن أغنيةٍ شهيرة للفنان خالد محمد أحمد عندنا في الإذاعة يقول مطلعها:

من حُبي ليك أهديتَ الروح فداك

يا زهرتي الرَيانة في نداك

ثم لج هؤلاء المداح يقلدون ألحان الأغاني تقليدًا كاملا، فقط الفرق في الكلمات. وقد رأيتُ قبل مدة في تسجيلاً لأغنية كانت تؤديها مجموعة من المادحين وهي بالضبط على لحن أغنية على إبراهيم اللحو، الشهيرة التي يقول مطلعها:

الكنينة، الكنينة، الكنينة يا رُطبَ الجنينة حِنْ علينا

ومن المؤسف فإن تلك الأساليب من إلباس المدائح ثوب الأغاني شيءٌ يتنافى مع حسن المقصد، الذي هو مدح النبي عليه الصلاة والسلام. وهناك تعليل فطير بائس ذهب إليه بعض مبرري تقليد المديح النبوي للأغاني، فيقولون إنه لصرف الناس من الأغاني إلى المديح، ولعمري هذا تعليل خاطئ، فلحنُ الأغاني ولا سيما المشهورة منها هو الذي يصرف السامع من مقصد المدحة إلى التذكير بالأغنية المقلدة، فيُحَضُ السامعُ إلى الرجوع إليها ويكون المبتغى غير المقصود وهكذا دواليك، والله المستعان.

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version