مشوار مقاولة

[ALIGN=CENTER]مشوار مقاولة ..!![/ALIGN] لـ الموت هيبة ومهابة في النفوس، بدرجة يصعب معها إدراج تبعات أو ملابسات وفاة شخصا ما في سياق طرفة أو ملحة، ولكن (ود المرضي) قد فعلها، عندما حكى لرفقائه من (البكّاسة) في موقف المواصلات، عن حادثة طريفة تكاد لطرافتها أن تتكي على تخوم (المبالغة) !
بعد طول الصبر على الزحف في الصف منذ الصباح الباكر، بلغ الدور لـ (ود المرضي) في موقف المواصلات الداخلي، الذي يربط بين المدينة والقرى والحلال المحيطة بها .. أوقف عربته وانتظر أن يسوق له الرزق زبونا أو شحنة يشحن بها البكس المتهالك، وينطلق لينهب به الطريق بين الترع والحواشات التي تفصل بين تلك القرى والمركز.
انتظر لبعض الوقت قبل أن يقترب منه مجموعة من الرجال يبدو من سيمائهم أنهم من متعاطي (الحمشنة) و(الرجالة) و(العين الحمراء)، ابتدر الكلام رجلا من بينهم، شديد غليظ القلب (كث) الشارب (مشرئب الافحاح شلولخ)، يبدو من هيئته وإحترام البقية له أنه كبيرهم أو زعيمهم .. قال مخاطبا (ود المرضي):
آآ اللخو .. دايرنك توصلنا مشوار .. عندنا جنازة بندور نشيلا ونمشيبا الحلة.
ثم وصف له مكان (الحلة) المقصودة، فما كان من (ود المرضي) إلا أن نزع عمامته ونزل مسرعا من البوكس وهو يردد:
بالحيل .. بالحيل
رفع يديه معهم بالفاتحة قبل أن يعود ليتخذ موقعه أمام الدركسون، وإلتفت إليهم بهمة وهو يقول: ارح.
ولكن كبير القوم رفع يده وأشار بها بحزم ليمنع البقية من الركوب، بمعنى تريثوا أو (أصبروا حبة)، ثم سأل (ود المرضي) مفاصلا:
تودينا المشوار ده بي كم؟
أسرع (ود المرضي) للرد باريحية وشهامة:
أفو آناس .. أرح أركبوا ساي حرّم ما بنختلف.
ولكن الرجل أصر عليه أن يذكر المبلغ المطلوب، فأجابه (ود المرضي) بأنه سوف يرضى منهم بمبلغ خمس وعشرين ألف (بالقديم)، فجادله الرجل حتى انزل المبلغ لـ عشرين ألف، ثم أشار لجماعته بالقفز فوق صندوق البوكس، بينما دار هو حول العربة وفتح الباب الأمامي ليجلس بجوار (ود المرضي).
تحرك (ود المرضي) بالعربة ومعه المجموعة متوجها صوب مستشفى المدينة القريب من السوق، فقد حسب أن الجثمان المعني إنما هو لمريض توفى بالمستشفى، ولكن لدهشته أشار له كبير القوم بالتوجه نحو السجن الذي يقع على أطراف المدينة !!
قاد (ود المرضي) البوكس طوال الطريق للسجن خارج المدينة، وقد خيمّ صمت متوتر أجواء كابينة البوكس حتى وصولهم .. نزل الزعيم وجماعته وتقدموا من بوابة السجن بعد أن أشار لـ (ود المرضي) بالانتظار حتى عودتهم بالجثمان.
نزل (ود المرضي) واختار ظل شجرة من الاشجار الظليلة التي تغطي بوابة السجن، وجلس تحتها انتظارا لخروج المجموعة، وهو يعاني من الحيرة ويضرب (أخماسه في أسداسه) في محاولة لإستنتاج قصة الجثة التي سينقلها من السجن .. بعد أن قلّب الأمر على جميع جوانبه استقر على فكرة مناسبة ظن انها تلائم الموقف الغريب، فقد هداه تفكيره أن لهؤلاء الرجال قريبا مسجونا وقد بلغهم نبأ وفاته في السجن، فحضروا لاستلام جثمانه، ولكن دهمته جملة تساؤلات عن كيف مات؟ وكيف عرفوا بخبر موته؟ ولماذا ما زال الجثمان في السجن بدلا عن أن يكون بالمستشفى؟ و..و
انتبه من سرحانه الطويل وتلفت لبوابة السجن في حيرة لتأخر الجماعة في الداخل، فقد مرت أكثر من ساعة على دخولهم .. انتظر بضعة دقائق قبل أن يستجمع أطراف شجاعته ويتوجه نحو البوابة .. تحمحم و(نحنح) قبل أن يلقي بالتحية على الحارس ويسأله:
الجماعة الدخلوا قبال مدّة كدي .. خبرم شنو؟ قالوا دايرين يشيلوا ليهم جنازة من هني !!
رد عليه الحارس ببساطة:
ايوآآ .. قصدك أهل المحكوم بالاعدام؟ لسه التنفيذ عليهو شوية .. هديلاك واقفين معاهو هناك لو عايز تدخل ليهم !!
ابتلع (ود المرضي) قلبه الذي طار محاولا الخروج من قفصه الصدري عبر حلقه، قبل أن يتشجع ويمد رأسه لـ (يتاوق) لساحة السجن وينظر لجماعته ومحكومهم.
وهناك في الناحية الأخرى من الباحة، سأل المحكوم بالاعدام أقربائه عن (ود المرضي) الـ (بتاوق من بعيد)، فأخبروه بأنه سائق البوكس الذي أستأجروه كي يعودا معه بـ (الجتّة)، فسألهم (المحكوم) منبّها:
قاولتوه؟ ..أجابوه بأن (أيوة .. المشوار بي عشرين ألف)
فقال في اطمئنان:
أحسن عشان ما يقوم بعدين يخمكم !!!

لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com

Exit mobile version