إبراهيم شقلاوي يكتب: العودة للخرطوم ورسائل مفضل

أصدر مجلس الوزراء الانتقالي التعميم رقم (18) لسنة 2025 موجّهًا وزارات العدل، الزراعة والري، المعادن، الثروة الحيوانية والسمكية، البنى التحتية والنقل، التحول الرقمي والاتصالات، التربية والتعليم، التعليم العالي، الموارد البشرية والرعاية الاجتماعية، الشؤون الدينية والأوقاف، والثقافة والإعلام والآثار والسياحة ببدء ترتيبات انتقالها من بورتسودان إلى الخرطوم.

وعلى الرغم من أن القرار يبدو إداريًا، إلا أنه لا يخلو من الدلالات السياسية فهذه الوزارات كانت تعمل في بورتسودان بطاقة محدودة ومهام محدودة ، وعودتها الآن تعني استدعاء كامل القوة العاملة للدولة مع توفير امكانات العمل واستعادة نبض الجهاز التنفيذي إلى مركز السلطة.

وفي الوقت نفسه، فإن انتقالها إلى مقار بديلة داخل الخرطوم، دون منطقة الوسط ، وفقا لتقديرات لجنة الفريق جابر التي تدرس إعادة تخطيط المنطقة المركزية لصناعة عاصمة حديثة. وهنا يكتسب القرار بعده الاستراتيجي: فالدولة لا تكتفي بالعودة إلى الخرطوم، بل تعود ربما وهي تعيد تعريف قلب العاصمة حيث الواقع الجديد ، في خطوة تجمع بين استعادة المؤسسات ، والشروع في هندسة شكل الدولة المقبلة.

عودة الحكومة الاتحادية إلى الخرطوم في ديسمبر الجاري تعيد رسم مركز السلطة في السودان بعد أكثر من عامين من التشتت القسري جراء تمرد مليشيا الدعم السريع . الخرطوم، التي شهدت خرابًا ممنهجًا وفقدت دورها كمسرح للقرار الوطني، تعود لتصبح رمزية الدولة ومرآة سلطتها على الأرض، في وقت ما تزال فيه التهديدات الأمنية والمخاطر السياسية قائمة.

هذا القرار ، إعادة تعريف العلاقة بين المركز والجهاز التنفيذي وإعادة ضبط الأداء المؤسسي على أساس يضمن استقرار العاصمة وقدرة الحكومة على فرض إرادتها لاسيما اننا مقبلون علي خطة للعام الجديد حملت الكثير من الاهداف والتحديات .

بالمقابل جات زيارة المدير العام لجهاز المخابرات العامة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل بالأمس لولاية الخرطوم في هذا التوقيت في صميم هذه الاستراتيجية، فهي رسالة مزدوجة: داخليًا تحذر من نشاط المتعاونين مع الميليشيات والخلايا النائمة، وتؤكد أن العودة ليست لحظة انتصار فحسب، بل بداية إدارة دقيقة لما بعد الحرب، وخارجيًا تؤكد قدرة الدولة على التحكم في الخرطوم، وتثبيت وجودها السياسي والأمني قبل أي ترتيبات.

اختيار مفضل لهذا التوقيت ليس صدفة، فهو يتزامن مع القرار الخاص بنقل الوزارات لذلك يهدف إلى ضبط المشهد الداخلي والسيطرة على النسق الأمني والسياسي في العاصمة، وشارة ذكية لتأكيد أن كل تحرك حكومي يتم ضمن خطة واضحة ومنسقة مع كافة الأجهزة الأمنية.

حديث مفضل أيضًا اكد الأهمية الرمزية للأمن والمجتمع المدني والثقافة في تثبيت الدولة: رتق النسيج الاجتماعي، نبذ خطاب الكراهية، وضمان مشاركة مؤسسات الدولة مع المجتمع، كلها أدوات تجعل السلطة ليست مجرد قوة مادية، بل قوة معنوية تستطيع أن تعيد رسم المشهد الداخلي.

لذلك العودة تحمل رسائل واضحة للجبهة الداخلية : أن انتظار القرار لن يكون خيارًا، وأن الخرطوم ستكون مركز المبادرة القادمة ، وأن أي تحرك سياسي داخلي يجب أن يأخذ في الاعتبار طبيعة السلطة المعاد تأسيسها في العاصمة. فالخطر الحقيقي الآن لا يكمن فقط في بقايا الميليشيات، بل في الفراغ السياسي أو التشتت المؤسسي الذي قد يسمح للقوى الداخلية المتربصة أو الخارجية الطامعة بإعادة صياغة الواقع على حساب الدولة.

سياسيًا، القرار يعيد تشكيل القوة بين الدولة وشعبها ، ويؤكد أن الحكومة تتحرك وفق استراتيجية مركزية متدرجة: استعادة السيادة على العاصمة، إعادة ضبط الجهاز التنفيذي، ومزج الأداء الأمني مع العمل السياسي، ما يخلق قدرة أكبر على إدارة الأزمة واستشراف المرحلة المقبلة. هذه الإجراءات ترسل رسالة لكل القوى الإقليمية والدولية: الخرطوم قلب القرار الوطني، بعودتها يعود التوازن وتعود الإرادة الوطنية متماسكة .

العودة للخرطوم إذن ليست مجرد إعادة مقار وزارات او ضبط للأداء التنفيذي للحكومة ، بل إعادة بناء الدولة نفسها من داخل العاصمة، مع وضع جميع الأطراف القيادات العليا ، إداريين، أمنيّين، ومجتمعيين ،ضمن رؤية واضحة لتحقيق تماسك سياسي واستقرار استراتيجي.

بحسب #وجه_الحقيقة ، العودة تمثل تحركًا استراتيجيًا متعدد الأبعاد: داخليًا تؤكد قدرة الدولة على إدارة السلطة وتنظيم المشهد السياسي، أمنيًا تعيد ضبط العاصمة ومواجهة التهديدات، وإقليميًا ترسل إشارات قوية بأن الحكومة ما تزال قادرة على المبادرة والتحكم بزمام الأمور. الخرطوم اليوم ليست مجرد مقر، بل منصة لإعادة تعريف السلطة والسيادة، وقلب أي استراتيجية وطنية أو تفاوضية محتملة ، وما قاله حديث مفضل يؤكد أن المرحلة المقبلة ستُدار بحذر، مع مزج السياسة والأمن والإدارة المؤسسية في بوتقة واحدة لضمان استمرار الدولة واستقرارها.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 9 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

Exit mobile version