* كل شيء كان ينضح جمالاً صباح اليوم ذاك من صباحات قرية تُمبس بالشمال النوبي..
* الشمس بقرصها الدائري الكبير تنهض بتثاقل من غفوتها وأشعتها الواهنة تنسرب من بين هامات النخيل الشامخة..
* وأقراص أخرى لا تقل جمالاً واستدارةً كان يجري إعدادها من عجين القمح- في اللحظات تلك ذاتها – داخل كل بيت من بيوت القرية لوجبة إفطار الصغار الذين سيعبرون النهر عما قليل نحو مدارسهم القابعة بالضفة الأخرى..
* والطيور ـ بأشكالها كافة ـ طفقت تنشد نشيد الصباح المألوف وقد أحالت فضاءات البلدة الساكنة إلى أمواج من حفيف التصفيق بأجنحة لا تعرف الفتر إلا حين تفتر عزيمة الشمس..
* أما الأمواج التي للنيل فقد كانت تلطم برفق خد قرية تألفها منذ القدم ثم تنسحب بدلالٍ غير موحٍ بلطمات غادرات ..
* ومن مكان ما يسري مع الأثير صوت وهبة ولوليـ شقيق المطرب النوبي المعتق صالح ولوليـ يدندن بأغنية (أسمر اللونا) الشهيرة..
* كل شيء ـ إذاًـ كان يوحي بوقائع ليومٍ لها من جمال ذياك الصباح نصيب..
* لا الشمس ببهائها الصباحي الحاني كانت تعلم بما سيحل بالبلدة من فاجعة بعد حين..
* ولا الطير والنخيل والزروع وصانعات أقراص الخبز كذلك..
* ولكن النيل كان يدّخر لطمة غير ذات حنو للقرية مصوبةً نحو بعضٍ من فلذات أكبادها..
* وتحسباً للطمة مثل هذه كان الكبار قد أوصوا صغارهم صباح اليوم ذاك بما درجوا على ترديده مع إشراق كل يوم..
* ثم كانوا يحرصون على أن تكون وصاياهم هذه بنوبيةٍ (فصيحة) يفهمها هؤلاء أكثر من فهمهم لـ(رطانة) العربية..
* يوصونهم بأن يأخذوا حذرهم من النيل..
* هذا ما قد كانت وثقته كاميرا المخرج النوبي ـ حاصد الجوائز الخارجية ـ سيف الدين حسن ..
* فقد سبق لسيف هذا أن نال جائزة عن فيلمه الوثائقي (صائد التماسيح)..
* ثم عن فيلمه (رجل من كرمكول) توثيقاً لجانب من تاريخ أديبنا العالمي الطيب صالح..
* ثم عن فيلمه هذا الذي بين أيدينا ـ بالعنوان أعلاه ـ توثيقاً لأحداث يوم نوبي بقرية (منسية)..
* وتمضي كاميرا ابن جزيرة لبب توثق لأحداث اليوم هذا..
* فصوت ولولي كان لا يزال يصدح بكلمات أغنية (أسمر اللونا) حين بلغت (الفلوكة) بالتلاميذ عرض النهر..
* وفي اللحظة التي تُوحي فيها الكاميرا بقرب (قطع) المشهد تُفاجأ بمشهد يجُبُّ ما قبله من مشاهد ألق ذاك الصباح..
* ويتبدل حال القرية من سعد إلى نكد..
* وتكف الطيور عن الشدو مفسحةً حيز فضاء القرية لأصوات البكاء والنحيب والعويل..
* و يُطأطئ النخيل هاماته ؛ والنيم والدوم واللالوب..
* والشمس تكتسي ثوب حداد قاتم وهي ترنو إلى القرية تُشيِّع أبناءها قبل أن تهوي نحو مضجعها تتثاءب..
* أما النهر فقد كانت أمواجه تتلاطم لتبدو كأنما (يلطم) بعضها بعضاً..
* وحين تقفز كاميرا المخرج إلى مشهد تغني فيه القرية مع ولولي أغنية (دسي ليمونا) التراثية نكتشف أن تُمبس قد قفزت فوق أحزانها لتصنع مركباً شراعياً عوضاً عن (الفلوكة)..
* ويصنع عبد الجليل التمبساوي الفلك..
* وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا من وعود (حكومية) بتذكر القرية (المنسية)؛ ثم أمدوه بما يعينه على الفراغ من مهمته (الإنقاذية)..
* وتبتهج القرية بعد مضي شهرين بنزول المركب إلى النهر..
* وتشرئب أعناق الناس والنخيل والطيور والشمس نحو مهبط الفلك..
* وتشرئب أعناق فضائيات خارجية نحو كل ما ينتجه سيف الدين حسن..
* وكذلك أعناق مانحي الجوائز في الخارج …
* إلا فضائيات بلادنا الرسمية (العديدة) …
* فهي تعيش في (الضفة الأخرى!!!).
[/SIZE][/JUSTIFY]
بالمنطق – صلاح الدين عووضة
صحيفة الأهرام اليوم
