يروى عن الراحل د . جون قرنق – وهو يعد من الذين اهتموا بمسألة الهوية السودانية أنه روى قصة في احدى المقابلات التي أجريت معه قبيل رحيله الفاجع، ومفاد القصة أنه وزميل اخر له في الجيش السوداني حين كان ضابطا فيه، كانا في كورس بالولايات المتحدة الامريكية، وفي اليوم الاول للكورس تم تقسيم الدارسين من انحاء العالم المختلفة حسب اقاليمهم الجغرافية ،أمريكا اللاتينية ، الشمالية ، شرق وغرب أوربا ، شرق اسيا ، أفريقيا، والعالم العربي أو الشرق الاوسط كما يقال. وذكر قرنق أنه عندما تم هذا التقسيم احتار هو وزميله الاخر وكان من الشمال هل ينضمان الى مجموعة افريقيا أم الى الشرق الاوسط ، حتى أن الضابط الأمريكي المسؤول عندما لاحظ حيرتهما سألهما من أين أنتما؟؟ فأجابا من السودان. فضحك وقال لهما اذهبا الى أي اتجاه تريدانه وانضما الى أي مجموعة تشاءا…هذه الواقعة التي رواها الراحل قرنق تتجسد فيها تماما نظرة الشعوب الأخرى تجاهنا حتى في محيطنا العربي والخليجي،اذ يعتبروننا جميعنا على اختلاف قبائلنا (سوادنة) لا فرق عندهم بين جعلي من المسيكتاب أو حلفاوي من السكوت أو هدندوي من سنكات أو مسلاتي من قارسيلا أو دينكاوي من أبيي..ثم تعال الى داخل البلاد واسمع مني هذه الحكاية التي قصها علي شرطي مرور قبل سنين عدة،قال الشرطي أنه كان مرة يحقق في حادثة انقلاب لوري أودى بحياة الكثيرين من ركابه،وعند سؤاله لأحد الناجين عن عدد من كانوا على متن اللوري،قال كنا أربعطاشر،فينا تسعة رجال وأربعة نسوان وجنقاوي واحد (يقصد دينكاوي)… ولم يكن أحد المسؤولين الكبار جدا يختلف في عنصريته في شئ عن ذاك المواطن العادي،قيل أن أحد كبار المسؤولين كان على موعد للقاء مسؤول كبير اخر يليه مباشرة في المقام والدرجة،جاء المسؤول الكبير الذي طلب اللقاء بالأكبر في الموعد تماما،أدخلته السكرتاريا المكتب الفخيم وأجلسته وأكرمته لحين حضور المسؤول الأكبر،وقتها كان المسؤول الأكبر يتسامر مع بعض خاصته في مكتب اخر مجاور، ولم يأبه لتنبيهات السكرتاريا له باللقاء للمرة الثانية بل كان غارقا في سمره وضحكه،وحين عاودت السكرتاريا تذكيره للمرة الثالثة، نهض واقفا وقال لخاصته ( أها يا جماعة ودعتكم الله نمشي نشوف العب دا عاوز يقول شنو)… وحكاية (الجنقاوي والعب) ما هما الا مجرد مثالين يمكنك أن تقيس عليهما مئات الالاف بل ملايين الأمثلة الدالة على مدى تعشعش وتغلغل القبلية والعنصرية في الرؤوس وتجذرها في الثقافة الشعبية، بل الأنكى والأدهى أن كثيرا من النخب والقيادات التي تلعلع أصواتها في أجهزة الاعلام تلعن القبلية والعنصرية نظريا وجهرا من على المنابر بينما تمارسها عمليا في حياتها وسرا في مجالسها الخاصة…
صحيح أن مطالبة البرلمان وزارة الداخلية بحذف خانة القبيلة من كافة المعاملات التي تتم في وثائقها تعتبر خطوة في اتجاه محاربة العنصرية والقبلية،ولكن التجربة العملية الطويلة والبرهان الماثل يقولان أن مثل هذه الخطوة لوحدها سيكون مردودها مثل مردود المنبت الذي لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع،بل ولن تنفع حتى وثيقة الحقوق الواردة في الدستور لو طبقت بكل الحزم والعزم،ما لم تزال هذه المفاهيم المعشعشة في الرؤوس…انها أزمة ثقافة وهوية بامتياز…
[/JUSTIFY][/SIZE]
بشفافية – صحيفة التغيير
حيدر المكاشفي
