مالك يا الحنينة ما بتزوري الضرايح – 1

[ALIGN=CENTER]مالك يا الحنينة ما بتزوري الضرايح ؟!! (١)[/ALIGN] نشأنا في بيت (صوفي) الهوى عبقت ردهاته بعبير بخور اللبان، وطالما رددت جنباته صدى ترانيم المادحين بـ (يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج) .. لم تكن ليالي الخميس لتمضي في بيتنا دون اجتماع المريدين لقراءة (المولد) أو حولية (سيدي الحسن أب جلابية)، فقد كان والدي الرحيم من مريدي الطريقة الختمية وخلفائها ..
وبالمقابل كانت جنبات دارنا تضئ فرحا بعمّتي (زينب) والتي تولت رعاية والدي بعد وفاة جدتي وهو صغير، عندما تحضر من ود مدني لزيارتنا في الخرطوم، فحضورها كان يعني لنا أن ننعم بليالي جميلة كالأنسام لذيذة كالأحلام، فكل ما كانت تحكيه أو تفعله كان مصدر لأنسنا وينحت في أحجار ذاكرتنا، ولكن ما كان يبهجنا بصورة خاصة هو اصرارها على الذهاب ونحن في صحبتها، إلى (برّي الشريف) لزيارة ضريح (الشريف الهندي) تبركا وعرفانا، وهي لا تكل من تكرار رواية (شحدة أبوي) منه، لأن الموت كان يرعى في خِلِفة جدتي من الصبيان، وكيف أن أبي طوال سنين طفولته الأولى كان يدقُلش بين أقرانه برأسه المزيّن دلجة إلا من قنبور في منتصف رأسه، يرمز لـ (مشحوديته) من أبونا الشريف.
وقبل عهود الوعي الديني التي عمّت بنورها القرى والحضر، كانت ولاءات قلوبنا تحرك أعناقها تبعا لحركة شموس ولاءات أهلنا الصوفية .. فعندما نكون في الجزيرة تنهمر حولنا الدعوات ونديهة (تلحقنا وتنجدنا) إن تعثّر صغير أو تأزم كبير، وتلهج الألسنة بـ (الليلة يا يوسف) و(يا أب شرا يا راجل الضرا) و(يا سيد البنّية يا أبو العشرة وجد المية) ونغني مع بنات أهلنا:
يا أبوي يا السنّي .. دايراك تطمّني
أصلو الغرام قسمة ولا منّو ولا منّي
أما عندما نعود للخرطوم، فتعود قلوبنا (بحرّية) الهوى، وتهفو لـ قبّة (سيدي علي)، وتتحول مع ندايه (الليلة يا سيدي الحسن يا أب جلابية) ونطرب دون فهم وتطير قلوبنا من وقع ضربات النوبة وإنشاد الشباب في باحة الضريح:
شيء لله يا حسن .. يا سلطان الزمن
الذهاب لمدينة بحري كل يوم جمعة في صحبة أبي لزيارة (الضرايح)، كان طقسا إلزاميا فلا شغل ولا شاغل كان يحول بين أبي وزيارة (سيدي علي)، وصلاة الجمعة مع الخلفاء، أما نحن فغاية متعتنا الـ (علي غبانا) كانت تتمثل في الاستمتاع بالدردقة على بلاط درجات السلم المؤدي للضريح، ثم خلع نعالنا وركنها بحرص على جنبة – خوفا من حرامية الشباشب – قبل الدخول في خشوع وقد غمرتنا هيبة المكان ..
كنّا نفعل مثل ما يفعله الكبار فنقف أمام الضريح ونرفع أيادينا بالفاتحة والدعاء لصاحبه، ثم نبدأ في الطواف حول الضريح خلف الكبار، وغاية ما يشغلنا هو تحسس نعومة الكساء الحريري الموشى الذي يغطي مقام الضريح، ثم ننحني عندما يُطلب منّا ذلك لنجلب بركة الزوارة، وذلك بخمش حسوة من التراب، نتلمّسه من فتحة تشبه السبلوقة أسفل المقام، ثم نقوم بفرك الخمشة في أيادينا الصغيرة ونتمسّح منها ما شاء الله لنا المسوح ..
بعد انتهاء طقوس زيارة السيد علي كنّا نتوجه بباب جانبي لزيارة بقية الشيوخ والأولياء المدفونين في تلك المنطقة .. سيدي (المحجوب) ومجموعة القبور التي حوله ولا تسعفني الذاكرة بأسماء من يرقد فيها، وهنا يأتي دور افساح المجال لمتعة العطاء فقد كنّا نتخاصم عند أبوي حول من هو أولى بحمل (الريالات) ووضعها داخل صناديق الزيارة، ولكنه يرضينا جميعا لأنه كان يستعد لذلك الطقس فيملأ جيوبه بكمية من الريلات والأشلان – دي جمع شلن يا جماعة – يقوم بتوزيعها علينا، فنتسابق لرميها عبر فتحات الصناديق ونتنصت لرنين سقوطها ..
وبعد الشراب من ماء المزيرة الظليلة، والاستمتاع ببرودته التي تنزل بردا وسلاما على حلوقنا الناشفة من طول الجري والتنطيط كـ السخيلات المتشاكسة، كنّا نترتدي نعالنا مرغمين لنتوجه لمحطتنا الأخيرة – حسب رغبة أمي – لزيارة جدّها الشيخ خوجلي الفوقو البركة ..
قال نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هجرا)، وورد بسند صحيح أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تزور قبر عمها حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) كلّ جمعة، ولكن هل زيارة أهلنا البسطاء للأضرحة تدخل في سياق هذا التصريح ؟!! طبعا لا وأبدا لا ….
وإن شاء الله نواصل في سرد ذكرياتي عن زيارتي للكثير من الأضرحة في طفولتي وصباي.

لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com

Exit mobile version