قضية عادلة في ثياب ظالمة

[ALIGN=CENTER]قضية عادلة في ثياب ظالمة [/ALIGN] قديما ..كان يضرب واقع الناس في الحياة مثلا رائعا ، نصه : إذا أردت تعطيل عمل ما ، فشكل له لجنة.. وهو مثل نابع من وحى تجارب أثبتت بأن اللجان في بلادي هي الوسيلة المثلى لتلجين الأفكار وتعطيل العقول والسواعد ، بل هي من وسائل التخدير أيضا .. أي ، إذا أرادت جهة ما خداع فئة ما، ذات مطالب وقضايا ، فإنها لاترفض تلك المطالب والقضايا ، ولكنها تتقبلها ، وأحيانا بالتهليل والتكبير ، ثم تنصح المطالبين بتشكيل لجنة لدراسة المطالب والقضايا ، ثم جدولتها ، بحيث تحل عاجلا .. وقبول أصحاب المطالب لتلك اللجنة هو بداية الطريق الذي تسلكه مطالبهم لتحلق ب ( أمات طه ) .. وطبعا للحكومة عبقرية فذة في السيطرة على اللجان التي تشكل لحل قضايا الناس ، وكثيرة هي القضايا التي تصدى لها البعض بحماس وشجاعة ، ثم ماتت قبل أن تجد حلولا، لأن الحكومة نجحت في السيطرة على ذاك البعض بعد تلجينهم ب ( لجان ) .. ولهذا إهتزت ثقة الناس في كل أنواع اللجان ، وتلك الثقة المهزوزة هي : ذاك المثل القديم ..!!
** أما حديثا .. هناك آفة أخرى حلت محل اللجان ، لتمارس مهمة تعطيل الأعمال وتلجين الأفكار وتدمير قضايا الناس وهي في مهدها ، وهي الآفة المسماة – سياسيا – ب ( الأجندة الحزبية ) .. أي ، صار المثل الذي يضرب في واقع الناس اليوم ، مثلا نصه : إذا أردت قتل قضيتك و إفساد محتواها ، فسلمها لأجندة حزب سياسي ، لتتبناها إنابة عنك .. هكذا الحال ، حيث ما دخلت تلك الأجندة في دهاليز قضية ما إلا أفسدتها .. حتى ولو شهد كل أهل الأرض بعدالة تلك القضية ، فإن أنوف الأحزاب التي تحشرت في تفاصيلها ، تفسدها وتجردها من محتواها ، بحيث تظهر لأنظار الدنيا والعالمين بأنها قضية ( غير عادلة ) .. والمؤسف في الأمر ، أن صاحب القضية العادلة لايلجأ للأحزاب ، بل الأحزاب هي التي تترصد الصاحب ، لتخطف منه قضيته ، بقصد الإفساد وليس لحلها .. وكأن الأحزاب في بلدي ، من أقصى اليمين وإلي ما بعد اليسار ، الحاكمة منها والمعارضة ، ما خلقت إلا لتعكير صفو ..( القضايا العادلة ) ..!!
** هل أريكم نموذجا ماثلا أمام الرأى العام حاليا ..؟.. حسنا .. فلنحدق في قضية الأطباء .. قضيتهم عادلة ، مافي ذلك شك ، ومطالبهم مشروعة ، ولاينكر ذلك إلا من يعيش بضمير غير سليم ..تظلموا تظلما جماعيا ورفعوا تظلمهم لمن يهمهم أمر رفع الظلم عن كاهل المظلومين ، ثم سلكوا درب الوسائل المشروعة في التعبير عن تظلمهم ، إعتصاما كان أو إضرابا ، ليسمعهم الرأى العام ومن يهمهم الأمر أيضا .. كل هذا شئ طبيعي ، ويحدث في ( أرقى الدول ) .. وما من أرض إلا وعليها ظالم ومتظلم ووسيلة تعبير يسترد بها المظلوم حقه ، أو هكذا ( حال الدنيا ) .. ولكن الحال في السودان ، يختلف عن حال كل الدنيا ، لأن أجندة القوى السياسية لاتدع المظلوم في حاله ، بحيث يقاتل وحده ليسترد حقوقه ، ولا تساعده بموقف إيجابي يساهم على إسترداد تلك الحقوق ، بل تتدخل تدخلا سافرا وسلبيا يبعد عنه حقوقه ، بل يهدرها أحيانا .. وهذا – بالضبط – ما يحدث لحقوق الأطباء .. أي ، بعد أن كانوا على قلب رجل واحد ، تفرقت بهم السبل الحزبية ، بحيث بعضهم يهاجم الوزيرة والوكيل ونهج الوزارة ، والبعض الآخر يناصر ذات الوزيرة وذات الوكيل وذات النهج الوزاري .. !!
** هكذا حالهم ، فريق متظلم ضد فريق متظلم أيضا .. أحدهم يهاجم الوزارة بالبيان تلو البيان ، والآخر يدافع عنها بالتهليل والتكبير و ( وييييي ) .. والسبب : المطالب تسربت من أيدي أصحابها إلي نفوس الأحزاب ( الحاكمة والمعارضة ) .. والمدهش أن المطالب التي كانت معروفة للجميع قبل أسابيع ، لم تعد معروفة لأحد منذ أول البارحة .. بمعنى ، الأجندة الحزبية – الحاكمة والمعارضة – نجحت في طمس معالم المطالب .. ولم نعد نعرف هل المطالب هي تحسين بيئة العمل وشروط الخدمة ، كما قالت لجنة النواب بالبارحة ، أم هي إقالة تابيتا بطرس لأنها ممرضة ، أوكما تقول لجنة الإضراب اليوم ..؟.. تأمل التغيير الذي حدث لإسم اللجنة بين ليلة وضحاها – كانت لجنة نواب ، فصارت لجنة إضراب – ثم تأمل الغاية التي تبدلت من تحسين بيئة العمل والراتب إلي إقالة تابيتا ، لا لأنها لم تحسن ذاك وتلك ، بل لأنها ممرضة .. الأجندة الحزبية المعارضة هي التي حلت محل مطالب الأطباء العادلة ، فأحدثت فيها هذا ( التشويه ) .. ثم الأجندة الحزبية الحاكمة هي التي حلت محل ذات المطالب العادلة ، فحولت تابيتا ، بالدفاع عنها ومناصرتها ، إلي ( مظلومة ) .. هكذا حال قضية الأطباء اليوم .. عفوا ، لم تعد قضية للأطباء ، لقد خطفتها أجندة القوى الحاكمة والمعارضة ، ولذلك يجب أن نقترح للأطباء إخراج قضيتهم من براثن تلك الأجندة النتنة ، وتنقيتها وتنظيفها ، ثم إعادة تقديمها للرأى العام بثوب جديد .. فالرأى العام ليس ساذجا ليناصر الحزب الشيوعي والمؤتمر الشعبي ضد المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ، وكذلك ليس غبيا ليناصر المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ضد الحزب الشيوعي والمؤتمر الشعبي ، أوهكذا ( لون وطعم ورائحة القضية ) .. وعليه ، أكرر : قضيتكم عادلة ، سادتي الأطباء ، ولكنها بحاجة إلي عملية جراحية عاجلة ، تستأصل تلك ..( الآفات ) .. !!

اليكم ..الصحافة-العدد 5981
tahersati@hotmail.com

Exit mobile version