بــين الــترابــي وخلـيـل!!

[JUSTIFY]تحدَّث الناس كثيراً عن العلاقة التي تربط بين المؤتمر الشعبي الذي يتزعَّمه د. الترابي وحركة العدل والمساواة ولعل أبرز الأدلة التي قُدِّمت في السابق تمثلت في انضمام بعض رجالات المؤتمر الشعبي إلى حركة خليل ثم العلاقة الخاصة التي ربطت بين خليل والترابي هذا فضلاً عن رفض المؤتمر الشعبي إدانة غزو خليل لأم درمان في حين بادر السيد الصادق المهدي إلى شجب ذلك الصنيع في الساعة الأولى بعد فشل تلك المحاولة المجنونة.
على أن جميع تلك الشواهد لم تكن كافية ولم تقدِّم دليلاً حاسماً وقوياً مثل الذي خرج من فم الترابي خلال زيارته لأسرة خليل في حي عد حسين لتقديم العزاء في الرجل.
دعونا نتجاوز إسراع الترابي لتقديم العزاء في رجل ظل متمرداً على الدولة وعلى قواتها المسلحة.. رجل دمّر وخرّب وقتّل وخاض حرباً لا هوادة فيها ضد بلاده وشعبه بالتحالف مع الأعداء.. دعونا نتجاوز ذلك إلى تنصيب الترابي نفسه ناطقاً باسم خليل حين أعلنها مدوِّية وفقاً لصحيفة «الصحافة» بأن خليلاً «كان يعد في خليفته خلال الفترة الماضية وفقاً لما أخبره به خليل»!! بما يعني أن الترابي كان في تواصل مع خليل ولعلَّ ذلك يكشف أن الحديث الذي دار بين خليل وشيخه حدث خلال الأيام الأخيرة إذ لا يُعقل أن عملية إعداده لخليفته كانت تتم خلال العام أو الأشهر الماضية!!
الأمر المدهش الآخر أن الترابي تحدَّث عن قومية حركة خليل حيث قال إن الرجل «كان يؤمن بالعدالة لكل السودانيين وإن حركته قومية وستثبت على مبادئها»!!
يا سبحان الله.. إذن فإن الترابي يتحدَّث عن حركة خليل باعتبارها حركة تابعة له بدليل أن قوله «ستثبت على مبادئها» يتجاوز مجرد الحديث عن قوميتها إلى الحديث عن مستقبلها وحقّ للذين يبحثون عن مستقبل الحركة ألاّ يتحدَّثوا لجبريل إبراهيم أو غيره من قادة الحركة لأن عرّابها وقائدها ومُلهمَها الفكري والفعلي «الترابي» موجود بين ظهرانينا يتحدَّث عن بقائها وعن ثباتها على مبادئها بل عن مستقبلها!!
على كل حال فإن الترابي الذي أسأل الله له حسن الخاتمة صار يتخبَّط تخبُّط العميان ومن عجب أنني سمعت وتأكّدت قبل قليل أن تحالف الشعبي لخوض انتخابات جامعة السودان يضم الحزب الشيوعي وجماعة عبد الواحد محمد نور (UPF) والمجموعات الدارفورية المتمرِّدة.. يا سبحان الله.. هذا هو الشعبي وهذا هو الترابي الذي قاد حملة حلّ الحزب الشيوعي قديماً لكن الترابي الذي بات يستحلّ كلَّ شيء ويحلِّل ما كان يعتبره قديماً من كبائر المحرَّمات هو الترابي الذي يُصدر من الفتاوى ما يُزيل الحواجز بين الأديان وبين الأبيض والأسود والأحمر والأزرق ويُخضع كل شيء لما يُمليه عليه هواه ونفسُه الأمّارة فكل شيء جائز تقريباً في دين الرجل الجديد ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
أعجب والله أن يسكت العلماء في السودان وخارج السودان ولا يسعَون إلى سحب لقب الزعيم الإسلامي الذي لا يزال يستمسك به ولستُ أدري ما إذا كان الأوان قد آن لتجريد الترابي من هذه الصفة في المؤتمرات والمنظمات الإسلامية العالمية كما لا أدري لماذا لا يعتبر اتحاد علماء المسلمين المرتد محمود محمد طه عالماً بنفس المعايير التي نصّبت الترابي عالماً وهو الذي بات يتنكّر لكثير من ثوابت الدين؟!
إن مشكلة الترابي لا تكمُن في اعتناقه أفكاراً تتعارض مع المعلوم من الدين بالضرورة إنما في أنه نصَّب نفسه إماماً يُضل أتباعه الذين باتوا يقدِّسون أفكاره ويتبعونه بطريقة «المريد لشيخه كالميت بين يدي الغاسل».
بالله عليكم هل خليل يقود حركة قومية أم أنه يتزعم حركة عنصرية نشأت بعد صدور الكتاب الأسود الذي كتبه بعضُ شيوخ المؤتمر الشعبي؟! من يقود حركة خليل غير مجموعة من العنصريين الذين ينحدرون من اثنية معيَّنة بالرغم من أن غالب الجماهير التي تنحدر من تلك الاثنية يرفضون نهج خليل ويتوافقون مع بقية شعب السودان؟!
دعوهم يبكون أباهم!!
إنه السودان الغريب في كل شيء… المتفرِّد في كل شيء.. ففي دول أخرى عربية وإفريقية وآسيوية يدفع أبناؤك ثمن موقفك السياسي ولا يكفي أن تغادر بلادك إن كنتَ معارضاً للنظام الحاكم لتمارس حريتك وتأمن مكر أجهزة النظام وقهرها فهناك صيد ثمين للنظام هم أبناؤك وأسرتك الذين يتَّخذهم دروعاً بشرية تعيش تحت سمع وبصر أجهزة الأمن المراقبة لحركاتهم وسكناتهم حتى تضطرك إلى أن تلزم الصمت وترعى ـ في الخارج ـ بي قيدك وتُلجم حتى لسانك من أن ينبس ببنت شفة أما أن تقود تمرداً تدمِّر به البلاد وتقتل وتسلب وتغزو وتهلك الحرث والنسل ويأمن أطفالك في موطنهم ويتعلَّمون ويعيشون حياة طبيعية فهذا لا يحدث في عالمنا الثالث هذا فيما أعلم إلا في السودان!!
تذكرتُ هذا بين يدي حالة أسرة المتمرِّد خليل إبراهيم التي كانت تعيش آمنة مطمئنة في الخرطوم يأتيها رزقُها رغداً من كل مكان بينما كبيرُها يشنُّ الحرب على بلاده ويفتك بشعبه ويشرِّد أهلَه فقلتُ في نفسي «ده السودان.. يا هو ده السودان»!!
لم تنفرد الإنقاذ بهذه القيمة الأخلاقية الرفيعة وإنما كان ذلك سلوكاً عاماً لكل الأنظمة التي حكمت السودان فقد كان أبناء وبنات خليل جزءاً من هذا المجتمع يشاركون أبناء السودان مقاعد الدراسة في جامعة الخرطوم وفي غيرها من المؤسسات التعليمية فهل من سلوك حضاري راقٍ أكثر عظمة من هذا وهل من تطبيق عملي لمبدأ «لا تزر وازرة وزر أخرى» أكبر من هذا؟!
كتبتُ هذه المقدِّمة لأُبدي اندهاشي من منع أسرة خليل نصب سرادق العزاء فهذا لا يتسق البتة مع مكارم الأخلاق التي جعلت الحكومة تُحسن إلى تلك الأسرة حين كان كبيرُها يقتل ويدمِّر ويخرِّب ويروِّع ويشرِّد فكيف تمنع البنات والأبناء من أن يبكوا أباهم ويستقبلوا المعزّين بعد أن لقي الرجل حتفه؟!
لا أفهم البتة هذا التناقض بين موقف الأبوَّة الحانية في الحالة الأولى والبمبان الذي علمتُ أنه أُلقي في بيت العزاء ولا أظن أن هناك خللاً أمنياً حدث يستدعي هذا التصرف الذي لقي استنكاراً من الذين فرحوا وابتهجوا بمصرع خليل.
على كل حال نحن في حاجة إلى أن نضبط كثيراً من تصرفاتنا المتناقضة فبالرغم من السلوك أو التقاليد السودانية المتفرِّدة فإننا نحتاج إلى أن نفرِّق بين الأشياء ونضبطها بميزان دقيق وقد كتبتُ مراراً عن حاجتنا إلى سنّ التشريعات الملائمة لواقعنا السياسي وهل من دليل على تخلُّف تشريعاتنا من عدم تجريم الخيانة العظمى في بلاد أنجبت عرمان الذي كان يقتضي مجرد وجوده أو حتى مولده حشد كل قانونيي العالم لكي ينظروا في التشريعات اللازمة للتعامل معه.. أقول هذا ولا أرى وزارة العدل تتحرَّك في هذا الأمر الجلل بالرغم من الوعود الكثيرة التي نثرها وزير العدل مولانا محمد بشارة دوسة على مسمعي!!
[/JUSTIFY]

الانتباهة – الطيب مصطفى

Exit mobile version