غازي صلاح الدين : لا أدري ما هي الكلمة التي قلتها باللغة الإنجليزية التي فهمها أولئك العباقرة على أن الشعب السوداني يحب النسنسة

قبل ثمان سنوات لفق شخص ادعى أنه صحفي مقابلة قال إنه أجراها معي وبعث بها إلى صحيفة مشهورة تصدر في لندن. كانت بالضرورة مقابلة مثيرة لأن القصد من نشرها كان في الأساس هو الإثارة بالطبع. لكن الجديد في ما فعله ذلك الشخص الذي، لا أنسبه إلى مهنة الصحافة في الحقيقة، هي أنه أدخل في تلك المرة صناعة الكذب بصورة أوهمت القارئين بصحة دعواه. فهو لم يلفق متن الحديث وحده، بل لفق الحواشي والتصاوير المصاحبة للمقابلة المفترضة. انتهت القضية بأن نشرت الصحيفة اللندنية اعتذارا مكتوباً على مدى يومين في الصفحة الأولى.
قبل يومين خضت تجربة جديدة شبيهة. فقد دعيت من قبل المعهد النرويجي للعلاقات الخارجية لإلقاء محاضرة عن الربيع العربي وآثاره، نشر موجزها في صحيفة السوداني حيث يمكن مراجعته. مضت المحاضرة بصورة جيدة للغاية حتى نهايتها. وفي دعوة عشاء في ذات الليلة أبدى مدير المعهد ومجموعة من الشخصيات النرويجية المشاركة تقديرهم لما أسهمت به المحاضرة من أفكار وملاحظات من شخص يتحدث من داخل منطقة الأحداث. وكانت الزيارة ناجحة حيث تضمنت لقاءات مع عدد من المسئولين النرويجيين من بينهم وزير الخارجية ووزير التعاون الدولي. لكن ما نشر عن المحاضرة في الإنترنت من أكاذيب والعنتريات التي ادعتها مجموعة تطلق على نفسها “مجموعة نشطاء حقوقيين” جديرة بالرد عليها حتى لا تضيع الحقيقة.
أثناء إلقائي للمحاضرة لاحظت أن هناك مجموعة من أربعة أو خمسة أشخاص يبدو من ملامحهم أنهم سودانيون. ما كان واضحاً من جلستهم ومدى متابعتهم للمحاضرة هي أنهم “خارج المشهد” تماما. كان واضحاً أنهم ليسوا مشاركين حقيقيين وإنما “مرسّلين”. على كل حال لم يكن لوجودهم أي أثر فعلي على المحاضرة. وعندما فتح باب النقاش ساهم الحضور فيها بدرجات مختلفة من المشاركة ولكنها كانت كلها مساهمات في صلب الموضوع. أما أصحابنا “المرسّلين”، الذين كانوا يجلسون متضامنين في كراس متلاصقة وينظرون نظرة من يتوقع صفعة من الخلف، فلم يكن يبدو عليهم أدنى مواكبة للنقاش الجاري ولا رغبة حقيقية، دعك من المقدرة، في المساهمة فيه. لكنهم من أجل أن يؤدوا مهمتهم التي أرسلوا لها، كان أحدهم يرفع إصبعه على استحياء ويخفضه كأنه يتمنى ألا يعطى الفرصة. لكن لسوء حظه أعطي الفرصة من قبل مدير الجلسة. ومنذ أن بدأ ذلك الشخص الحديث دخلنا نحن السودانيين الحاضرين في حالة تضامن معنوية قوية معه، والله بحكم الرابطة السودانية بيننا، وأننا في كل الأحوال بأقوالنا وأفعالنا نمثل السودان. بدأ ذلك الشخص بعد كثير من الفأفأة والثأثأة، ينتقل من كلمة ركيكة إلى كلمة ركيكة أخرى كما ينتقل من عتبة إلى عتبة في سلم منزل متهالك يوشك على السقوط. وأخذ يحوم حول كل معنى يريده ولا يصيبه. وعندما فرغ من حديثه، إن صحّ الوصف، بعد عسر شديد وهم، تنفسنا الصعداء وحمدنا الله على كل حال. وبرغم أن النرويجيين الحاضرين لم يفهموا شيئا، فقد فهمنا نحن السودانيين أن ما قاله ذلك الشخص لم يخرج في جملته عن المألوف في كيل السباب للحكومة بغض النظر عن موضوع المحاضرة، وكل ذلك ببيان وبرهان ضعيفين. بعد ذلك وزعت لنا المجموعة بياناً هو آية في صناعة الكذب. ثم ازدهاها نصرها الكاذب فملأت مواقع الإنترنت بعد ذلك بغزوتها الموهومة والانتصارات المتخيلة التي حققتها وشفعت ذلك بجملة من الأكاذيب المصنوعة. وسأعرض لبعض ما ورد، متجاوزاً عن بعض آخر لمبالغته في الإسفاف.
قالت المجموعة إنني عقب أحداث انقلاب رمضان وما جرى من إعدامات قلت: “إن هؤلاء خوارج يستحقون الإعدام”. وبغض النظر عن الرأي في ما جرى في تلك الأحداث فإنني في ذلك الوقت (عام 1990) لم أكن جزءاً من الحكومة، بل كنت أستاذا بالجامعة، ولم أكن شخصية عامة تستنطقها الصحافة. قالوا إنني في السودان أسير في حراسة مشددة، وأنني عند دفن أحد أقربائي في مدافن فاروق كانت تحيط بالمقابر القوات النظامية. ولا أدري هل طال بهذه المجموعة العهد بالسودان أم أنها تكتب من خيالها. فأي رجل في السودان اليوم يذهب إلى دفن أقربائه في حراسة مدججة حتى لو كان رئيس الجمهورية. ونحن لا نعيش تحت حراسة مدججة حتى في بيوتنا، دعك من مناسباتنا حيث القاعدة هي التواصل والانفتاح. قالوا ويا للعجب إنني اتهمت الشعب السوداني بأنه: “كسول ويحب النسنسة”. وأنا لا أدري وجه المناسبة أصلاً في أن أتعرض لكسل السودانيين أو نشاطهم في محاضرة مخصصة للحديث عن الربيع العربي. ولا أتخيل شخصاً عاقلا يمثل بلده يدعى إلى المحاضرة في بلد آخر فيتناول شعبه بالإساءة. ثم إنني، ربما لمعرفتي المحدودة باللغة، لا أدري ما هي الكلمة المرادفة لكلمة نسنسة في اللغة الإنجليزية. ولا أدري ما هي الكلمة التي قلتها باللغة الإنجليزية التي فهمها أولئك العباقرة على أن الشعب السوداني يحب النسنسة. إنني سأكون ممتناً لهؤلاء من خلال معرفتهم الواسعة باللغة الإنجليزية أن يضيفوا إلى قاموسي كلمة “نسنسة” باللغة الإنجليزية. وأخيراً أجتزأوا من قاموس الإساءات الشخصية الذي حفلت به بيانات تلك المجموعة “الحقوقية” قولهم إنني أبعدت من ملف المفاوضات عام 2003 لأن الحركة الشعبية طالبت بأن يكون “من يفاوضهم سودانياً”. ولا أدري إن كانت تلك المجموعة معنية “بالحقوق” فعلاً هل يتسنى لي أن أطمع في عدالتهم وحقوقيتهم. والإجابة بالطبع هي لا، لكنني أذكرهم بأن ثلاثة أرباع السودانيين يذكرون في أدبياتهم أن أجدادهم جاءوا إلى السودان مهاجرين، بل إنهم يفتخرون بتلك الحقيقة. وإن الذين هاجروا إلى السودان لم يأتوا من الشمال وحده، بل جاءوا من الغرب ومن الشرق ومن الجنوب أيضاً. ولو كانت المجموعة معنية بالحقوق حقاً لدافعت عن حقوق هؤلاء جميعاً.
الغريب أنهم يوردون كل هذه الأقوال والاستشهادات دون إشارة إلى نص من مصدر موثوق. لا نص من محاضرة ولا من صحيفة ولا كتاب ولا مقابلة إذاعية أو تلفزيونية. إنها محض أكاذيب. لكن المدهش أكثر هو أنك تجد في اليوم التالي لمثل هذه الأكاذيب أقلاما تلتقفها لتكتب عنها المواضيع الطوال كأنها حقائق مثبتة. وعلى خفة عقل مثل أولئك الكتاب يراهن الخراصون.
مضى زمان كانت الكذبة تلقى فيه جزافاً، وجاء زمان أصبح الكذب فيه صناعة. ومضى زمان كانت الزعامة فيه تكليفاً ومسئولية ثقيلة في الأعناق. وجاء زمان أصبحت الزعامة فيه بالمجان. لا مشكلة، فكل من امتلك لهاة واسعة، مستحقاً أو غير مستحق، أصبح بوسعه أن يكون في عالم الإنترنت زعيما لـ “جماعة حقوقيين” أو “نشطاء حقوق إنسان” أو حتى رئيساً “لحركة تحرير العالم”. صناعة الكذب وحدها آفة. أما أن تجتمع بالزعامة الزائفة فهذا طوفان، لكن العزاء هو في أن الحقيقة ستسود دائماً في نهاية المطاف.

غازي صلاح الدين العتباني
صحيفة السوداني

Exit mobile version