الصحافة السودانية على طاولة التشريح

الصحافة السودانية على طاولة التشريح
صحافة العمود
1-2
وليعذرني القراء الكرام كأن أستلف لفظة “طاولة التشريح” من عنوان كتابي الذي يبحث عن ناشر لا يوجد: جهاز الإحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا على طاولة التشريح السودانية!! ولقد أرسلت نسخة الكترونية من هذا الكتاب لكثير من المهتمين بالإقتصاد مثل مراكز البحوث الخ، ومنهم الدكتور عبد اللطيف البوني المتخصص في العلوم السياسية، ويبدو أن فكرة طاولة التشريح أعجبت الدكتور البوني..فهل يا ترى أعجبه الكتاب؟! وحقا ما أكثرهم من يستحق التشريح في السودان!! أليست هي فكرة جميلة كأن يستخدم طلبة الطب في مادة التشريح بعض السياسيين والصحفيين بدلا من تشريح الضفادع والأرانب، وكذلك أليس من الأجدى علميا إستخدامهم في التجارب المعملية الصيدلانية بدلا من تلك الفيران؟! شنو رأيكم في الفكرة؟
كتبت الصحفية الذكية في أحد أيميلاتها التي أخذت تنمو على أرضية الصداقة الفكرية الجميلة النادرة بيننا، التالي:
((..هل تعتقد لا سمح الله أن كل كاتب عمود في بلادنا هو شخص يمتلك موقفا وجوديا من الحياة ويكتب في اطار ايمانه برسالية المهنة مثلاً ..؟!
السذاجة جزء أصيل من اللعبة يا سيدي..لعبة التواطؤ مع ذوق القارئ وهي تحدث لان العزف على أوتار المشاعر والانفعالات الشعبية حينا والقومية احيانا هو الطريقة الوحيدة للثبات على سراط المقروئية وما ادراك ما المقروئية..هي التي تحدد (كم تقبض) التي تحدثت عنها وهي التي تحدد من هو النجم ومن هو كاتب الاخيرة .. وعلى فكرة معظم هؤلاء الكتاب يملكون رؤى أعمق مما يبدو واراء مخالفة لمجريات الواقع لكنهم يجارون والمجاراة هي آفة الصحافة السودانية!!
وانا على فكرة لا استثني نفسي من هذا..تبسيط اللغة والتقليل من العمق والجدية كنت افعله احيانا ولا افعله غالبا .. لكي تكون كاتب عمود نجم لابد ان يبارك القراء ما تكتب فترتفع اسهمك ويزيد المقابل المادي..وهذا يفسر عدم شعبية مقالات الكتاب والمحللين الجادين والعميقين باستثناء قلة قليلة نجحت في تحقيق المعادلة المطلوبة وهي الموازنة بين ما يملكون وما يريد الناس ان ياخذوه منهم ..!
وكله تعب وحرق دم ومجهود ذهني وعصبي لان اسهل شيء هو ان تكتب لتمتع نفسك وتتماهى مع قناعاتك ومستوى وعيك وفكرك وأصعب شي أن تشرح البرسترويكا في قصة لذيذة مضغوطة بأربعمائة كلمة لقراء معظمهم يشتري صحيفتك مع كيس الخضار والخبز وهو يمني نفسه بحقه عليك في أن تكون عظيما ولطيفا وعميقا وطريفا وجادا وهازلا ومبتكرا ومتجددا ومدهشا كل يوم ..!
لاحظ انك ينبغي ان تكون كذلك بمقاييسه هو لا بمقياسك انت ..!
لا اعتقد ان كذا مليون جنيه كثيرة على كاتب (عمود) يزيد من دخل الجريدة في عالم صحافتنا التي توزع باعمدة الكتاب وليس بالسبق الصحفي وصناعة الخبر والتحقيق الجيد..هذه هي الحقيقة وفي بلاد برة على قول المصريين وانت سيد العارفين كتاب ياخذون نسبة من ارباح التوزيع على عمود يومي..نجومية كاتب العمود مثل نجومية لاعب كرة القدم أو مغني الراب او راقصة الباليه لا فرق كلهم يعزفون على اوتار الجمهور او يرقصون على انغام عزفه)).أ.هـ.
****
لو كان بالإمكان كتابة كلماتها بمداد من الذهب على لافتة مضيئة ثم تعلق عند مدخل نقابة الصحفيين وإتحاد الكتاب السودانيين والمجلس القومي للصحافة والمطبوعات لفعلت!!
لقد أستخدمت صديقتنا الصحفية الحادة الذكاء مبضع الطبيب الجراح المتخصص في علم التشريح لفرز النسيج السرطاني المتفشي في الصحافة السودانية صحافة العمود!! ولكن هنالك بلا شك بعض الإستثناءات الجيدة لبعض الأعمدة الحميدة، مثل عمود دكتور البوني وحيدر المكاشفي!! (ليس الدكتور عبد الرحيم حمدي يا المكاشفي..فسياسة التحرير الإقتصادي لا تتم بضربة زر، الرجل أعلن سياسة التحرير الإقتصادي وأزاحوه ولم يكمل ما بدأه، فصنعوا وحدهم إقتصادا طفيليا بأسمه!! لكي تفهم اكثر عليك بمحافظ بنك السودان الذي سبق صابر محمد حسن..ونعني الشيخ سيد أحمد الشيخ).
والسؤال هنا هل أدمن السودانيون على قراءة الأعمدة القصيرة المحبوكة الفكهة الجزلة دون سواها؟ يبدو أن ذلك صحيحا. وهل يكفي عمود صغير من 400 كلمة تفسير العديد من الظواهر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وإعطاء الحلول لها جماهيريا؟ قطعا كلا، ومستحيل. أين العيب إذن؟ هل العيب في الجمهور أم في الصحف؟ أم في الأثنين معا؟
نعم، يجب ان نعترف أولا أن سوء حال الصحافة والصحفيين لا يتخارج عن سوء مسيرة تطور السودان بكليته السالب، وفي تقديري أن السودان منذ 25 مايو 1969م وهو في حالة تردي وإنحطاط بمتوالية هندسية بشكل غير مسبوق على كافة الأصعدة، الأخلاقية والحياتية والمعيشية والسياسية والفكرية أي منذ أربعة عقود ونيف!! ولكي لا نظلم الصحفيين، فإن مسيرة التغيير الإقتصادي-الإجتماعي socio-economic change تقع حتما على عاتق المفكرين السودانيين دون سواهم وليس على عاتق الصحفيين أو السياسيين حصرا. وإذا إفترضنا أن عالم السياسية عالم فطيري يدخله كل من هب ودب بدون شروط أو مؤهلات، علينا ألا نتوقع من السياسيين شيئا ذا قيمة إضافية لأن فاقد الشيء لا يعطيه السياسيون يقتادون عادة من موائد المفكرين. إذن يأتي على عاتق المفكرين السودانيين على الخصوص المساهمة وعلى عاتقهم الدور الأكبر كأن يسلموا السياسيين والشعب السوداني أدوات التغيير الفكرية لبناء دولة مدنية حديثة. ولننتقل للسؤال التالي: هل لدينا مفكرون نظروا للدولة السودانية المدنية؟ يجب أن نجاوب على هذا السؤال الهام بأمانة وبموضوعية، وسنجيب عليه في المقالة التالية، والآن لنرى دور الصحافة والصحفيين.
ما يعيب الصحافة السودانية هو أنها اصبحت صحافة عمود لا غير!! كثرت الإعمدة ودخلت الصحافة السودانية ومعها الصحفيون مباراة تنافسية حادة: من هو صاحب أفضل عمود حتى تجذب الصحيفة القراء ويزيد دخلها!! ولكي يزيد الصحفي كاتب العمود من أسهمه في سوق الصحافة وبالطبع من دخله المالي يكتب بخفة دم ملحوظة، بغض النظر عن الفكرة الخ ثم لا شيء آخر ذو قيمة في الصحيفة!!
فمثلا إذا أخذنا الخبر أو قسم تغطية الأخبار الدولية في الصحف السودانية سنجد كلاهما ضعيف: بالتحديد حين تعيش في السودان وتقرا جميع الصحف السودانية يوميا لن تفهم مطلقا منها ماذا يدور في الإقليم العربي ودعك ماذا يدور في العالم الغربي أو الأفريقي أو الأسيوي!! ولقد أشتكى لي من هذه النقطة عربي لبناني متحسرا بعفوية، قال: في بلده لبنان عبر الصحف او صحيفة واحدة يفهم آخر المستجدات في القضايا الإقليمية الساخنة، ولكنه هنا في السودان وله ثلاثة أشهر، وبالرغم من إنه يقرأ الصحف السودانية بإنتظام، فقد الرؤية السياسية وفقد المتابعة للأحداث السياسية التي تتحكم في الإقليم العربي!! لقد صدق الرجل.
انا نفسي عشت لفترة في الخرطوم وتوطت لدي نفس تجربة اللبناني، ففي ألمانيا يندر كأن لا تقبض بعنق الأخبار المستجدة في سياق الصراع الدولي، ولكن في السودان تشعر وكانك أنعزلت عن العالم أو سقطت في حفرة عميقة رغم انك تقرأ الصحف يوميا. لذا ليس من المستغرب أن حاولت صحيفة آخر لحظة في بدايتها كأن تؤسس من نفسها صحيفة إقليمية أي كأن تغطي الأخبار الإقليمية والعالمية بأسلوب إحترافي لسد هذه الفجوة المهنية. وفشلت آخر لحظة بسبب الوفاة المفاجئة لصاحبها الطموح الصحفي اللندني المرحوم “هاسان ساتي”!! بينما مصطفى أبو العزائم حولها إلى إقطاعية محلية خاصة على طريقة صحيفة الوطن العائلية وتلعب الكرة في دائرة جيب من جيوب المؤتمر الوطني!!
هذا النقص المعيب في تغطية الخبر والأخبار المحلية والإقليمية والعالمية في الصحف السودانية هو محسوس حتى لدى الصحفيين السودانيين مما دفع بعض الصحفيين للتفكير في شراء صحيفة الحقيقة التي ماتت فجأة بالسكتة القلبية من صاحبها ومؤسسها السويدي، وعزموا إبتدءا على أن يجعلوها صحيفة إقليمية تنافس إقليميا على غرار صحيفة الشرق الأوسط مثلا. ولكن الفكرة ماتت في مهدها لإختلاف الشركاء الصحفيين قبل أن تبدأ الشراكة. ولو أشتروها وطبقوا الفكرة لفشلوا ولربما قد يكون هدفهم الجاليات السودانية في الخليج فينجحوا نسبيا!! ويعزى الفشل إلى أن الفضاء الإعلامي العربي هو محجوز لدول الخليج مسبقا، ولن تسمح بدخول صحيفة عربية من دولة أخرى منافسة، ومحروسة بأجهزة مخابرات تتصيد كل كلمة لا تمانع دول الخليج أن تكتب صحفهم الخليجية ما تشتهي موجهة سهامها للعرب غير الخليجيين وقد تتقبل بعض القضايا في حقها على طريقة هايد بارك، ولكن لن تسمح هذه الدول “للغريب” بنقد دول الخليج داخل الدائرة الإعلامية العربية الخليجية..إذن هذه الإقليمية المنشودة ليست سوى الوصول لجيوب السودانين المغتربين!! الشيء الطريف…تخشى الصحف السودانية المحلية وتجبن مطلقا من الكتابة الناقدة في دول الخليج، ومن علامات النفاق الصحفي السوداني، تكتب صحف الخليج نفسها سياسيا وفكريا وعقائديا بعنف بحيث لا يقارن بما تكتبه الصحف السودانية الخجولة عن دول الخليج!!
لا شك أن كفاءة الكادر الصحفي لها أهميتها في صياغة وتغطية الأخبار الدولية. فلقد لاحظت أن الأخبار الدولية ليست مهمة لدى كل الصحف السودانية فقسم الأخبار ليس له غرفة خاصة، وعادة لا يحظى هذا القسم بالمحظيات والإمتيازات مقارنة بأصحاب الأعمدة والمقالات الراتبة، لذا أصحاب الصحف يشغلون هذا القسم باية صحفي ولا يهتمون بمؤهلاته المهنية أو بحجم خبراته وثقافته السياسية، وما عليه إلا أن يضرب بفارته على الأنترنيت ويختار الأخبار الخارجية التي تتفق مع الحد الأدنى لثقافته السياسية التي غالبا ما تكون صغيرة ومشوشة..الخ ومثالا على ذلك وليس من قبيل الحصر صحيفة الوفاق التي لا ترتبط الأخبار الخارجية فيها برابط تحليلي شامل بحيث تعطي رؤية سياسية كلية متماسكة وبعدا ديناميكيا من يوم لآخر، وقد تبدو أحيانا الأخبار المنتقاة متناقضة ومتباعدة بحيث تشير إلى جهل الصحفي المناط له قسم الأخبار بظاهرة سياسية إقليمية. على سبيل المثال لا الحصر الجهل بما يدور حقيقة في دولة مثل العراق، أو الجهل بالحالة الكردية وتاريخها، أو الحالة اللبنانية بإرهاصاتها الخليجية المتداخلة، ولكن يأتي في الأهمية الجهل بطبيعة وجوهر الصراع الشيعي السني إذ شرعت بعض الدول العربية منذ 2006م إلى شيطنة إيران كعدو رقم واحد للعرب بدلا من دولة إسرائيل. وأخيرا، يجهل القراء السودانيون المساكين بعض من جيرانهم التسعة الأفارقة جهلا مطلقا بفضل صحافة سوانية غير محترفة.
وما أثار إستغرابي ودهشتي بعض الصحف السودانية تضع مقال أو عمود الكاتب المصري أنيس منصور بشكل ثابت وأيضا للكاتب اللبناني سمير عطا الله وبالتحديد صحيفتا الوفاق وآخر لحظة، والرجلان كلاهما من الكتاب الصحفيين الضحلاء وتاريخهما المهني الصحافي غير مشرف، لا أدري هل تدفع لهما الصحيفتان أم لا. الصحفي اللبناني سمير عطا هو زميل للمرحوم حسن ساتي بصحيفة الشرق الوسط، لذا كحل صحيفته بعموده، ورأيت بعيني كيف كان المرحوم يدق أبواب دول االخليج ويروج لصحيفته عبر قناة العربية في الفقرة الصباحية تمهيدا لنقلة إقليمية!! أنيس منصور أيضا يكتب ربما من ربع قررررن في صحيفة الشرق الأوسط وهو يمشي على خطى سيده أنور السادات!! ولا شك أن المرحوم حسن ساتي يعرف انيس منصور معرفة شخصية.
ولكننا لا نفهم لماذا تكحل صحيفة الوفاق ورقة الصحيفة بعمودين لهذين الرجلين ليست ثمة هنالك علاقة كعلاقة المرحوم حسن ساتي بصحفي صحيفة الشرق الأوسط. إما أن يكون رئيس تحرير صحيفة الوفاق يجهل قيمة هذين الرجلين الفكرية والمهنية ويجهل تاريخهما الصحفي أو أنه يضع ثقلا على العلاقات العامة، وربما رغب بسذاجة أن تتشبه صحيفته بصحيفة كبيرة كصحيفة الشرق الأوسط ومن ناحية أخرى العمل في إمبراطورية الإعلام الخليجية هي أمنية مبطنة في دواخل معظم الصحفيين السودانيين!! أنيس منصور؟ لا، شكرا!!
هذا الأنيس منصور هو تربية العميلين للولايات المتحدة الأمريكية مصطفى وعلي أمين وكان وما زال على نقيض تام مع عبد الناصر ونظامه السياسي، ففي كل الفترة الناصرية خاصة الستينيات كان أنيس منصور يشاغب النظام الناصري بخرافات أسبوعية تشغل الرأي العام المصري لا لشيء سوى حرفه عن متطلبات كل مرحلة سياسية!! أتذكر فتاة الأسكندرية واحدة منها!! وقصتها خطيب وخطيبته يتنزهان على كورنيش البحر في الأسكندرية فجاة أختفت الخطيبة!! أدعى منصور أن الجن خطفها!! وهكذا ما تنتهى حكاية حتى يدخل أنيس منصور في حكاية أخرى خرافية..على طريقة كارل ماي!! ومع أنور السادات زار أنيس منصور معه إسرائيل وطبع مع العدو الإسرائيلي، وكذلك في عهد مبارك، وأقام صداقة مع السفارة الإسرائيلية في القاهرة وإلى اليوم هو صديقهم الحميم!! لا أحد في مصر يقرأ عمود أنيس منصور لأنه صحفي منبوذ – فكتاباته كلها تدور حول الذات وإجترار تهويمات شخصية..مكانه الطبيعي أن يحنط ويوضع في المتحف المصري مع الإله آمون رع!! ولأنه منهم ولهم تنشر له المؤسسة السعودية لآل هشام الحافظ في كذا مطبوعة في وقت واحد – منهن صحيفة الشرق الآوسط، وتدفع له أتعابه الضخمة بالكامل ولخدمات نوعية أخرى يقدمها لعرب الخليج.
أما اللبناني سمير عطا الله فهو كارل ماي العربي في تزوير التاريخ العربي المعاصر بلا منازع..وإن لم تعرف من هو كارل ماي النمساوي أدخل على الويكيبيديا!! سمير عطا الله كتب سلسلة موسوعية ضخمة في صحيفة الشرق الوسط تحت عنوان أدب الرحلات كلها من خياله الفينيقي الخصب، فمثلا، وهو بيت القصيد، أن برسي ذكريا كوكس، ومسز بيل، وهمفري، وسنت (عبد الله) جون فيليبي، وديفيد شكسبير، ولورنس العرب..جميعهم كانوا من عشاق الصحراء العربية، وهم ليسوا سوى سواح أوروبيين عشقوا الصحراء وسباق الهجن!!
لماذا نكتب في الصحافة والصحفيين السودانيين؟ لأننا نرغب في صحافة قوية ومحترفة لذا يجب تشريح الصحافة السودانية على طاولة تشريح القراء المستهلكين للصحف وكشف عيوبها، ولم يعد هنالك صبر كأن نصمت على أسلوب الصحفيين المتماهي مع بعضهم البعض والذي يحاكي: إحلب حلبا لك شطره واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا!! كذلك يجب الا نغتر كان تهاجم صحيفة ما الفساد بينما في واقع الأمر تهاجم فساد جيب متنفذ في الحكومة لصالح جيب آخر فاسد ويتوهم المتوهمون أن صحافتهم تحارب الفساد!! الإعلام والصحافة السودانية فيهما أيضا فساد، ولس فقط فساد الحكومة، ولنتامل ما كتبه الدكتور البوني في لحظة تجلي غير عادية في عموده بعنوان: رزية ونطاحة، التالي:
(في الموسم قبل الماضي اشترى اتحاد المزارعين عصرية بث كاملة من التلفزيون القومي ووزع فِرقه على اقسام الجزيرة وكان هذا في شهر يناير تقريبا حيث الخضرة في اوجها وربطهم بالقمر الصناعي في بث مباشر وداخل الاستديو جلس عدد من المسئولين وهاك يا كذب أقسم بالله العظيم شككونا في وجودنا في الجزيرة لقد صوروا لنا الجزيرة بأنها جنة الله في الارض وأن موسمها ذاك سيكون إعجازيا فجاء الحصاد وانكشف الملعوب وثبت أن حبل الكذب اقصر من قصير. في موسم حصاد الذرة الماضي ذكرنا قصة الخبر الذي ورد في نشرة التلفزيون الاتحادي الرئيسية عندما ذهبت كاميراته الى حواشة بالجزيرة انتجت حوالى 15 جوالا للفدان نتيجة لتجارب بعض الحزم التقنية اي حواشة نموذجية فصورها على اساس أن هذا متوسط إنتاج الفدان في كل الجزيرة بينما المتوسط لم يتجاوز الخمسة جولات وفي اقرب حواشة لتلك الحواشة المتلفزة، فقد كان خبرا مدفوع الأجر من الجهة صاحبة المصلحة).
هكذا يخدع الإعلام السوداني المرئي الفاسد الشعب السوداني في الداخل، ولكن بشكل خاص يخدع المغتربين في الفيافي الأوروبية والأمريكتين وأستراليا وفي الخليج وآسيا ولقد كنت شخصيا من ألمانيا ضحية لهذا الإعلام الفاسد بجدارة!! نفس هذا الخداع تمارسه الصحف المطبوعة بأسلوب آخر عبر الحوارات المدفوعة الثمن من قوت الشعب السوداني.. وهي في الأصل إعلانات، تهدف إلى تلميع بعض المسؤولين الفاشلين في إدارتهم ومشاريعهم أو ولاياتهم…ويحول الحوار الصحفي فشلهم إلى إنجازات ومنجزات، وقد يرمي المسؤول في هذه الحوارات سبب الخراب الذي أحدثه في مؤسسته عبر النهب المصلح على عاتق مجلس الأمن، أو على قلة الأمطار، أو قلة الموارد الخ
نحن ما زلنا في إنتظار بروسترويكا صحفية من الدكتور نافع علي نافع لتحرير الصحافة من عقالها عبر تطبيق القانون الأمريكي للصحافة في السودان، ولقد حذرناه في مقال سابق إن لم يعجل يعمل بروسترويكا صحفية، سيخسر اية معركة قادمة مع اللوبيات الاقتصادية الفاسدة داخل المؤتمر الوطني. ولقد صدق تحليلنا وما أن وقع دكتور نافع علي نافع على إتفاقية إديس أبابا مع مالك عقار..حتى تحركت اللوبيات الإقتصادية المتحالفة مع السلفيين السروريين لتحطيم الإتفاقية!! إعتراض ورفض هذا التحالف الثنائي للحركة الشعبية قطاع الشمال كأن تعمل سياسيا كحزب نشط في الشمال مرده نقطتان: 1) إعاقة أية جسر محتمل قد يلعب إيجابيا في إعادة وحدة السودان السياسية بعد الإنفصال لصالح دولة السروريين الإسلامية في الشمال، 2) اللوبي الإقتصادي الفاسد يرغب في المحافظة على مكتسباته المالية التي حصدها على حساب قوت الشعب السوداني طوال أثنتين وعشرين سنة.
وإن لم يفعل الدكتور نافع بروسترويكا صحفية فماذا ينتظر الصحفيون؟ ولماذ تصمت نقابة الصحفيين أو إتحاد الصحفيين؟ لماذا لا يرفع شعار القانون الأمريكي للصحافة والمطالبة بتنفيذه أو النموذج الأمريكي للصحافة؟ نهمس في إذن الصحفيين إن الشرع الإسلامي مع قضيتهم يقول الرسول (ص): “البينة على المدعي واليمين على من أنكر”. وتفسير هذا الحديث ببساطة، لكي يحكم القاضي لصالح المدعي فعلى المدعي أن يأتي ببينة، وإن لم يأتي المدعي ببينة، فرض القاضي على المدعي عليه الحلف باليمين على المصحف إذا أنكر ثم يتركه حسابه على الله.
قضيتنا المحورية في تحرير الصحافة هي محاربة نهب المال العام. ماذا يقول المتشرعة وليس الشرع في قضية المال العام؟ خاصة في دولة مثل السودان لا تفصل ما بين السلطات الثلاثة إلا ظاهرا؟ إذن السلطة الرابعة وهي الصحافة ذات إختصاص كمدعي على من يسرق المال العام حتى بدون بينة، وعلى المدعي عليه اليمين إذا أنكر. وإليكم هذا المثال التوضيحي:
إن سرق “سعد” بضعة بيوت ومتاجر، تقطَع يده (عقوبة قاسية)، وهذا ما يفرضه الشرع (ولنقول ان قيمة ما سرقة بحدود الثلاثين ألف جنيه مثلا). أما إن سرق “سعد” من المال العام / ميزانية الدولة ما قيمته ثلاثين مليون، او ثلاثمئة مليون او ثلاثين ترليون…فالشرع المعمول به لا يقطع يده (!). لماذا؟ لأن السارق من بيت المال لا تُقطَع يده “وذلك” لان له فيه “نصيب”. وبيت المال قديما هو اليوم ميزانية الدولة ومالها العام. لذلك، بدون “تنقيح” وإصلاح حقيقي داخل الإسلام الحنيف نفسه لتطهيره من كل ما علق به من صدأ وتطهيره من الضرر الذي الحقه به الكهنة (وخاصة فقهاء ووعاظ السلاطين على مدى العصور الاسلامية)، لن تجد دولة – كالسودان مثلا – تدعي الإحتكام للشرع الإسلامي طريقة ناجعة لمكافحة سرقات المال العام وإختلاسه (ذاك النوع من الفساد الإداري الذي أزكم الانوف)، حيث ان الثقافة الدينية السائدة ترى أن له في ذلك المال المسروق “نصيب”.
وفي هذه الحالة علينا أن نشرح ما هو “النصيب”؟
إذا سرق “سعد” من المال العام ما يزيد عن ما يوازي حقه فيه.. تقطع يده، نعطي مثالا لتقريب الصورة وفهم منطق الشرع لو عشرة أشخاص تشاركوا بمال كل واحد ب 1000 جنيه والمجموع 10 آلاف، لو أحد الشركاء سرق من ذلك المال 1000 جنيه فلا تقطع يده، وربما يعزر باقل أو أشد من ذلك مثل السجن والجلد السبب أنه سرق من مال له فيه نصيب ولم يجاوز نصيبه، أما لو سرق 5000 جنيه من مال الشركاء فتقطع يده، ومثل ذلك يقال في المال العام. هذا أمر – ثم إن في المسالة خلاف فحتى لو سرق أحدهم من المال العام فقد يحكم القاضي بما يراه معتبرا وصحيحا حسب اعتقاده ويأمر بالقطع بكل حال. وأخيرا – حتى لو لم يحكم القاضي بالقطع فيجوز لولي الأمر أن يعزر..وربما يكون التعزير أحيانا أشد من القطع. ولو طبق حد السرقة في السودان توقعوا ان تشاهدوا فلان مقطوع اليد لانه سرق منزل او متجر بما قيمته عشرة ألاف جنيه او عشرين الف جنيه او خمسين الف جنيه مثلا ، اما علاّن والذي سرق الملايين او البلايين من المال العام، فمصيره سجن او إعفائه من منصبه (عقوبة غير قاسية ولا رادعة) وذلك لأنه سرق من بيت المال (!!).
هل هذا يتفق مع شرع الله، كأن يترك سارق المال العام بدون تطبيق حد السرقة عليه وهو قطع اليد؟ (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) الحشر،7 – ولقد فرض الله الزكاة على الأغنياء في الوضع الطبيعي ويستنبط من هذه الآية ألا يكون المال تحت أمرة قلة من الناس دون غيرهم، بل للغير حقوق فيه هذا فما بال أن تستفرد بالمال قلة وتسرقه؟! لا شك أن للمال العام حرمة مثل حرمة المال الخاص وأشد لأنه يتعلق بسرقة الناس جميعا.
إذن الصحافة إذا افترضنا إنها ضمير الأمة، والرقيب على من يحيد عن الإستقامة على كل المستويات، لكونها مرآة المجتمع، فهي بلا جدال ذات إختصاص ومعنية بشأن المال العام، قال النبي (ص): “من قتل دون ماله فهو شهيد”، وهو حديث متفق عليه. وقد بنى الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام على هذا الحديث قوله: عجبت لمن لا يملك قوت يومه لا يشهر سيفه!! وقال أيضا عليه السلام: فما جاع فقير إلا بما متع به غني!! وهذا منطقي فالكتلة النقدية محدودة، فميلانها لفئة قليلة يخلق الفقر لفئة كبيرة إذن الفقر ليس حالة غيبية أو قدرية!! ولقد كرر رئيس الجمهورية كثيرا في أسماع الشعب وفي السماء رزقكم وما توعدون فيا له من ديان عادل هذا الذي يرزق رجال المؤتمر الوطني ويحرم سواد الشعب السوداني لقمة العيش!! إذن ليس بالضرورة أن تكون للصحافة بينة أو قرينة ضد لصوص المال العام، إذ يكفي ذلك الإستشعار بالفساد والتنبيه حتى تجبر اللصوص أن يختاروا ما بين أمرين إما أن يثبتوا براءتهم طوعا وبالوثائق المقنعة في مؤتمر صحفي على الملأ على الطريقة الأمريكية، وإما أن يحلفوا باليمين إن أنكروا نهبهم للمال العام كما تقول شريعة محمد صلى الله عليه وآله. وفي حالة رفض الخيارين لا يتبقى للسودانيين سوى ان يصنعوا صفحة في الإنترنيت ويسمونها sudan wikileaks حتى يتحصلوا على قرائن للفساد، وقتها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون!!
قال الإمام علي عليه السلام في خلافته لبقية صحابة رسول الله (ص): لو لم تتهاونوا في نصرة الحق وتوهين الباطل، لم يطمع من طمع فيكم، ولم يقوى من قوي عليكم!! وكان يقصد معاوية. هذا هو حال الصحافة والصحفيين في السودان بلسان وصي النبي (ص)، يعسوب الدين وخير البرية، إمام البررة قاتل الفجرة، منصور من نصره ومخذول من خذله.

شوقي إبراهيم عثمان
كاتب ومحلل سياسي
[email]shawgio@hotmail.com[/email]

Exit mobile version