من الذي علق الجرس في رقبة البشير -2 ؟

من الذي علق الجرس في رقبة البشير -2 ؟
أما كيف علقوا الجرس في عنق رئيس الجمهورية عمر البشير؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن يسبقه فهم ثلاثة نقاط:

أولهما: أن الإشكالية السلفية الدينية التي تصدرها دول الخليج للجيران العرب تتحكم فيها أجهزة المخابرات الخليجية.

وثانيهما: أن الحركة السلفية داخل السودان تدير أنشطتها بأسلوب مخابراتي فيه الكثير من الخداع التكتيكي وهدفها بناء ظاهرة دينية وكسب الأنصار عبر المكاسب الدنيوية، ويعتبر الترويج عبر الإثارة والترهيب واكتساح الساحة ديموجوجيا من أولوياتها، لذا من السذاجة أن يفترض المرء أن السلفية القائمة في السودان معنية كأن تتحرى علميا هل هذا الحديث أو ذاك الموضوع الديني مكذوب أم لا، ومن السذاجة الدخول مع السلفية في حوارات لأنها تعمل عبر برامج وقوالب جاهزة، وليس بإعمال العقل وتغليب منهج البحث العلمي الخ

أما الثالثة: سنكتشف مفاجأة مرة أن أساتذة الجامعات الإسلاميين لهم ضلع كبير في صنع الكارثة التي تلف السودان ما بعد الانقسام وفي عهد المؤتمر الوطني الحالي، وبحجم لا يتخيله أي سياسي سوداني محنك وهذه النقطة الثالثة بالذات، لا غيرها، هي التي تفسر كيف علق أساتذة الجامعات الإسلاميين الجرس في عنق رئيس الجمهورية. وعند هذه النقطة يعتمد أيضا استقراؤنا كيف استخدم هؤلاء الأساتذة الإسلاميين علومهم الأكاديمية في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي لصالح السلفية ، في الإعلام، وأجهزة الأمن، والشروع في تفكيك الطرق الصوفية الخ وتشرح الفقرات التالية كيف خدعوا رئيس الجمهورية، وسنكتفي بالنقطة الثالثة:

علم النفس الاجتماعي يقرر أن المجتمع أي مجتمع ينقسم على نفسه رأسيا إلى مكونات اجتماعية طبقا لحجم وأهمية وطبيعة الظاهرة الاجتماعية إلى: طبقة class، شريحة stratum، وجماعة community، ومجموعة group، ولقد ذكرناها بصيغة المفرد للتسهيل.

فمثلا على الظاهرة الاقتصادية قد ينقسم المجتمع إلى طبقتين أو ثلاثة، وعلى الظاهرة الفئوية وطبيعة النشاط قد ينقسم المجتمع إلى عدة شرائح مثالها شريحة طلاب وطالبات الثانوي والجامعة، وعلى الظاهرة الدينية والسياسية قد ينقسم لمجتمع إلى جماعات communities طائفية وإلى أحزاب، وأخيرا قد تنقسم هذه الأخيرة أي الجماعة في المجتمع إلى مجموعات صغيرة groups small حول ظاهرات اجتماعية صغيرة، وهي التي يهتم بها علم النفس الاجتماعي لأن الفرد الاجتماعي يتفاعل معها مباشرة اجتماعيا ونفسيا، فيدرس هذا العلم العلاقة ما بين الفرد والمجموعة group، فحول الظاهرة التعليمية نفسها مثلا قد ينقسم الفصل الدراسي حول نفسه أفقيا إلى مجموعات حسب ميول الطلاب وخلفيتهم الاجتماعية والسياسية الخ وكذلك في الجامعة. وينقسم المجتمع حول ظاهرة الأسرة إلى مجموعات أسرية وهي أشهر التقسيمات، وحول الظاهرة الدينية لدينا مجموعة المسجد. وليس أخيرا مثلا تنقسم الجماعة community في المجتمع إلى مجموعات groupsحول ظاهرة شرب الخمر.

في كل هذه الأحول ينقسم المجتمع حول نفسه رأسيا وأفقيا على ظاهرة اجتماعية معينة، كبرت أم صغرت وهو قانون اجتماعي. إذن الظاهرة الاجتماعية هي العامل الحاسم في عملية التقسيم!! وبما أننا قلنا أن المجموعة group هي الأهم لأن الفرد الاجتماعي يتفاعل معها مباشرة، بينما لا يتفاعل أو يحتك مثلا مع “طبقة” اجتماعية الشعب، الطبقة الخ هي ألفاظ مجردة أو تجريدية، وسينحصر حديثنا حول الفرد وعلاقته بهذه المجموعة أي المجموعة group التي يتفاعل معها يؤثر ويتأثر بها.

وسنأخذ مثالا للدراسة case study مجموعة شرب الخمر “القعدة” وطقوسها للتسهيل على القارئ. فحول ظاهرة شرب الخمر قد تنقسم الجماعة community الاجتماعية – أية جماعة اجتماعية، أفقيا إلى مجموعات أي groups، ونلاحظ التالي في المجموعة:

إن الظاهرة ومثالها ظاهرة شرب الخمر- تنتخب لها قائدا انتخابا طبيعيا يعبر عن الظاهرة، وبالأحرى يعتبر القائد للمجموعة هو الأكثر تعبيرا عن الظاهرة المعينة. نكرر انتخابا طبيعيا، وليس عبر التصويت أو الإكراه!! فمثلا قائد مجموعة فصل دراسي قد يكون أكثرهم تفوقا، وقائد ظاهرة شرب الخمر قد يكون أكثر أفراد المجموعة حبا للخمر، أو هو يبذل من أجلها المال بكرمه وأريحيته، فالكرم مغنطيس كبير الخ. هذا القائد يطلق عليه في علم النفس الاجتماعي بال leader بينما يسميه الدكتور علي محمد علوان عميد أصول الدين بجامعة الرباط الوطني بال cabinet!!

من هذه النقطة وصاعدا سندرس العلاقة ما بين القائد A وبقية أفراد المجموعة B, C, D, E, F, G, H, I, j, K، وهذا الرسم يبين طبيعة العلاقة ما بين أفراد المجموعة (الدوائر) وطبيعة العلاقة أو اتجاه الأسهم يحدد اتجاه الارتباط :

الأفراد B, C, D, E يرتبطون بالقائد مباشرة، بينما F, G يرتبطون ب B وكذلك H, I, j يرتبطون ب E إلحاقا بالقائد، ويكون الفرد K أضعفهم علاقة بالقائد. هذا الرسم تخيلي ونموذجي، ولكن طبقا للدراسة الحقيقية يمكنك تمرير الأسهم في أي اتجاه جانبي طبقا للدراسة الواقعية مثلا J -> E, D.

ينشأ في هذه المجموعة حول الظاهرة المعينة عند التقاء أفرادها بعضهم البعض في وقت واحد عقل جمعي collective mind وهو ليس المجموع الجبري لأعضاء المجموعة. وفي المجموعة يعطي الجميع ولاءه للقائد، وإذا أخل أحدهم بقيم المجموعة أو تحدى القائد A، خاصة (K) يتم لفظه من المجموعة. إذن المجموعة group هي بالمنطق الرياضي set ولها مكوناتها ومنطقها وقانونها الداخلي، والجميع فيها مرتبط بالقائد.

الآن إذا رغبت أن تغير من النظام القيمي لهذه المجموعة عليك بالتأثير على القائد ِA وليس على أي شخص في المجموعة. وإذا رغبت أن تدمر هذه المجموعة أي أن تجعلها تتوقف من شرب الخمر عليك العمل على القائد A أي أن تعمل عليه وحين يتوقف من شرب الخمر ستتفكك المجموعة كحبات السبحة كأنك قطعت خيطها. وإذا كنت ذكيا أكثر، يمكن للقائد A أن يسحب أفراد المجموعة في أية اتجاه فكري أو سلوكي يرغبه خاصة في المدارس حين يشكل الأطفال “عصابات” صغيرة للشقاوة – فلها أيضا قائد، لو عملت على هذا القائد يمكنك التأثير على كافة المجموعة، وبنفس القدر، إذا حولت رئيس الجمهورية سلفيا سيحول السودان كله نحو السلفية!!

الآن أنتم مؤهلون لكي تفهموا كيف علقوا الجرس في عنق رئيس الجمهورية لقد ركزوا على القائد A = عمر البشير. ويمكنكم أن تفهموا أيضا الكثير من لعبة السلفيين من أساتذة الجامعات كيف يرغبون في تحطيم الطرق الصوفية كل ذلك ورئيس الجمهورية عمر البشير لا يدرك أبعاده!!

قبل أن أقضي عاما كاملا في الخرطوم وأصحح تصوراتي الخاطئة “عبر الدراسة والاكتشافات” المباشرة عن هذا النظام المخادع، كنت محتارا من ألمانيا لماذا تزيد السلفية قوة في السودان..بينما الوجوه السياسية القابضة على زمام السلطة التي نعرفها ليست سلفية!! وما كان يحيرني أيضا هو لماذا تضع واشنطون هذا النظام في خانة الدول الراعية للإرهاب أما اللغز الأكبر فكان سقوط هذا النظام في حضن المملكة السعودية!! حيرة ما بعدها حيرة!!

الخطة الماكرة إذن هي أن يعلقوا الجرس!! فقد ساعدني كتاب الأستاذ الكاتب والصحفي أبو أحمد (خالد عبد الله) مساعدة كبيرة، مما ذكره في مسودة كتابه أن الشيخ الترابي منذ يوليو 1994م كان يعمل لقاءا غير ملزم للأعضاء مرة في الأسبوع يناقشون فيه تفسير القرآن على منهج المدارسة والمفاكرة النقدية لتحقيق تفسير توحيدي للقرآن (أي خميرة فكرية)، وكان يتراوح عدد المشاركين في كل جلسة ما بين عشرة إلى عشرين مشاركا من وزن الشيخ السنوسي، يسن عمر الإمام، عبد الرحيم علي وإسماعيل حسن حسين وغيرهم وبعض السياسيين وطلبة العلم، ولكن بالطبع كان أحمد علي الإمام حاضرا!! بينما المحبوب وأمين حسن عمر يسجلون المحضر ويفرغون الأشرطة الخ. يمكنك الآن الاستنتاج أن أحمد علي الإمام وعبد الرحيم علي، وإبراهيم أحمد عمر، وعلي عثمان نقلوا فكرة الجلسة القرآنية الأسبوعية للقصر الجمهوري، ولكن ليس لتفسير القرآن على المنهج التوحيدي بل تفسيره على منهج ابن كثير والسلف الصالح، وغاية الأمر صنعوا جلسات خاصة جدا تتم فيها التعبئة الفكرية للرئيس!! وفي هذه الجلسات الخاصة علقوا الجرس في عنق رئيس الجمهورية – أي حولوه إلى سلفي بمقولات زائفة ومتناقضة!!

دراسة العبارة التالية لرئيس الجمهورية تفيد المطلوب: (نحن كحركة إسلامية حركة وسطية، نتحدث عن وحدة أهل القبلة…ونتحدث عن الفقه الواسع، نضع حدوده بين عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس، فنحن حينما نتحدث عن السلفية نتحدث عن السلف الصالح في الخلافة الراشدة ولم نتحدث عن فلسفة مذهبية).

وبعد غربلة العبارة نحصل على: حركة وسطية، وحدة أهل القبلة، فقه واسع، عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس، السلف الصالح، الخلافة الراشدة، فلسفة مذهبية.

لقد أجزم رئيس الجمهورية أن الحركة الإسلامية التابعة للمؤتمر الوطني حركة وسطية. وما هو دليله على ذلك؟ شيئان: 1) إنهم يؤمنون ويطبقون عمليا مشروع توحيد أهل القبلة، 2) يؤمنون بالفقه الواسع.

لنرى حقيقة هذين الدليلين!!

مشروع أو ما يسمى بمجلس توحيد أهل القبلة مشروع فيه خدعة مبطنة هدفه تفكيك الطرق الصوفية. يخدع أساتذة الجامعات السلفيين والشيوخ الذين حول الرئيس (أحمد علي الإمام وعلي عثمان محمد طه) كل من رئيس الجمهورية، والطرق الصوفية، والشعب السوداني.

ما على القارئ الكريم إلا الرجوع للوراء قليلا ومعاودة التأمل في النموذج السابق في علم النفس الاجتماعي وكان مثاله مجموعة ظاهرة شرب الخمر، وقد قلنا لو رغبت في تفكيك الظاهرة عليك بتغيير طريقة تفكير قائد المجموعة. وبما أن المجتمع ينقسم على نفسه حول الظاهرة الدينية إلى طرق صوفية، وهذه الطرق لها قيادات تنتخب انتخابا طبيعيا، وبما أن “مجلس توحيد أهل القبلة” يضم في عضويته قيادات هذه الطرق الصوفية جنبا إلى جنب مع القيادات السلفية فعليه إذن، إذا استطعت أن تغير من عقلية هذه القيادات الصوفية عبر الاحتكاك المدروس والمنهجي يمكنك تفكيك الطرق الصوفية!!

يحدث التفكيك حثيثا حين تنجح أنت في التأثير على القيادات الصوفية عبر العمل المدروس والمقصود، مثل الاحتكاك المستمر عبر المظاهرات الاجتماعية والزيارات المصحوبة بالكتب والمصادر ، ومن المؤثرات على القيادات الصوفية أيضا الهدايا العينية، والتمويل الضخم ، وافطارات شهر رمضان السلفية – بدعم من نائب رئيس الجمهورية، وزيارات مناسك الحج المجانية المدفوعة التكاليف والتوسط في التوظيف بالمملكة، وتفخيم هذه القيادات الصوفية من قبل الجامعات السودانية ورئاسة الجمهورية الخ. وتأتي معززة لعملية تفكيك الطرق الصوفية بعض التكتيكات المُعزِزة، مثل اختراعهم مشروع “دمج التعليم الأصيل بالتعليم الحديث”..وهذا المشروع في خطتهم التآمرية المستهدف به تلامذة الخلاوي، فبتغليف الجميع بدخان إكسابهم مهن حرفية حديثة يهدونهم بخفية طبعا كتاب منهاج السنة لابن تيمية أو العواصم الخ!!

إذن أساتذة الجامعات السلفيين يتآمرون على الطرق الصوفية ويعملون على جبهتين: جبهة التغيير المنشود بالعمل على نحر عقلية وفكر القيادات الصوفية وقد يكون بطيئا ولكنه يثمر على المدى البعيد، ويعملون أيضا على جبهة أطفال الخلاوي ونتائجها وثمارها سريعة، فأطفال الخلاوي يسهل التأثير عليهم عبر مؤامرة دمج “التعليم الأصيل بالتعليم الحديث” وهكذا يجففون مدد ومحيط القيادات الصوفية مبكرا، فبعد عقد أو اقله سيصيب الضمور الطرق الصوفية وقد تسقط القيادات الصوفية في العزلة.

هذه الخطة السلفية الماكرة لا يدركها رئيس الجمهورية في العمق!! لقد تم خداع رئيس الجمهورية على أن جلوس السلفية التكفيرية في مجلس واحد يسمونه “مجلس توحيد أهل القبلة” يعنى ذلك انفتاحا على الفقه الواسع!! بينما حقيقة الأمر إنهم يرغبون بخفية ومكر في تفكيك الطرق الصوفية، وأن يحلوا تعاليم ابن تيمية وتلاميذه محل الأدبيات الصوفية!!

لقد اكتشفت هذه المؤامرة السلفية عبر ذلة لسان للدكتور علي محمد علوان عميد كلية أصول الدين بجامعة الرباط الوطني بمعية الدكتور جابر إدريس عويشة عميد كلية الاجتماع بجامعة القرآن الكريم في التلفزيون القومي السوداني. نوه الدكتور علوان بأهمية الحوار ما بين أهل القبلة، وقال: يعني ال cabinet مهمة!! هذه اللفظة الصغيرة التي لم يبنى عليها، وسحبها من لسانه سريعا، كافية لكي أفهم أنها تعني أهمية العمل على القيادات leaders من منظور علم النفس الاجتماعي كما نشرح في هذه المقالة. وبالطبع الدكتور جابر إدريس عويشة وأمثاله المتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي لهم الباع الأطول في تصميم هذه المؤامرة.

أما قول رئيس الجمهورية (نضع حدوده (الفقه) بين عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس) تعني قبل كل شيء اعتقال الدولة للدين والدولة أو مخابراتها هي التي تضع حدود الفقه المسموح به. ولكن أين تجد هذه العبارة: (عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس)؟ ستجدها لدى المالكية. فهي قولة أبي جعفر المنصور الدوانيقي لمالك ابن أنس!! روى مالك ابن أنس (ت 179هـ) بنفسه هذه المقولة عند مقابلته لأبي جعفر المنصور (ت 158هـ) وقد طلبه لمهمة أن يكون مفتي الدولة الأوحد. (ثم قال لي: يا أبا عبد الله -مالك ابن أنس- ضع هذا العلم ودونه، ودون منه كتبا (فكان الموطأ)، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة (رضي الله عنهم)، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا سواها. فقلت له: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق (الشيعة الموالية لأئمة أهل البيت!!) لا يرضون علمنا ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر: يحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ونقطع طي ظهورهم بالسياط، فتعجل بذلك وضعها فسيأتيك محمد المهدي ابني العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله).

راجع مقالنا العلمانية في مواجهة تأله الدولة الإسلامية
http://www.sudaneseonline.com/arabic/permalink/5239.html

وكان مالك ابن أنس بعد هذه الزيارة أول مفتى رسمي للدولة الإسلامية بالمعني اللفظي الذي نفهمه اليوم من اعتقال الدولة للدين لا يفتى أحد غيره، وأعلن أبو جعفر المنصور الدوانيقي بمنشور للملأ: لا يفتى “أحد” ومالك في المدينة!! وهذا “الأحد” لم يكن سوى الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عميد مدرسة آهل البيت النبوية. لاحظ قول المنصور: يحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ونقطع طي ظهورهم بالسياط عند قراءتك للنص أعلاه.

إذن ما هو الذي خاف منه أبو جعفر المنصور فقهيا، أو عمر البشير كما علمه دهاقنة شيوخ القصر الجمهوري، حتى يقول الأخير قولة لأول: نضع حدود الفقه بين (تجنب) عزائم (شدائد) عبد الله بن عمر، (و) (تجنب) رخص عبد الله بن عباس؛ بينما أسقط رئيس الجمهورية من عبارته شواذ عبد الله ابن مسعود؟؟

هل لعبد الله ابن عمر ابن الخطاب عزائم أو شدائد؟ نحن نشك في ذلك، كان عمر ابن الخطاب يبغض بني هاشم وورث أبنه عبد لله ابن عمر هذا البغض بشدة ملفتة للنظر!! فمثلا لم يبايع عبد الله ابن عمر علي ابن أبي طالب في خلافته، بينما بايع قبله عثمان، وبعده معاوية وأبنه يزيد ثم مروان وأبنه عبد الملك ابن مروان بل ابن عمر بايع رِجْل الحجاج (أي قدم الطاغية، قال له: يدي مشغولة وكان يكتب فمد له رجله!!) نيابة عن سيده عبد الملك!! بل ابن عمر لم يصلي خلف الإمام علي قط لا في خلافته أو غير خلافته فكان لا يعترف بخلافته. كل ما وجدناه من شدائد ابن عمر هو ما يضحك الثكلى!! قالوا عن شدائده: كان ابن عمر شديد على نفسه وعلى الناس، ويظهر ذلك واضحا في فتواه، فكان يغسل وجهه، ويدخل الماء في باطن عينيه، وكان يبعد الأطفال عنه خشية أن يسيل لعاب طفل عليه أو بغيره فينجسه…بينما ابن عباس ..كان يقرب الأطفال إليه ويقول (إنما هم رياحين نشمها). وفي الحج، قالوا: كان ابن عمر يزاحم على الحجر الأسود حتى يدمى وعندما سألوه، قال: (هوت القلوب والأفئدة عليه). بينما ابن عباس: كان يكره المزاحمة ويقول لا يؤذى لا يؤذى. ونظرا لذلك الاختلاف الواضح بينهما عرف في تراثنا الفقهي المقولة الشهيرة ..شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس!!

العكس هو الصحيح، بل ابن عباس هو من تعتبر “رخصه” من “الشدائد” على القوم مثل دفاعه الحار عن أحلية الزواج المؤقت أي زواج المتعة ودفاعه عنه دفاع المستميتين على أنه حلال، ومن شدائده مثل حديثه الذي يسمى بيوم الخميس يوم الرزية!! وقوله: لقد هلك القوم أقول قال الله ورسوله ويقولون قال أبو بكر وعمر!! أما شواذ عبد الله ابن مسعود لا يصرحون بها ويقصدون تكفيره لعثمان ابن عفان ورفضه تسليم مصحفه، ووصفه لزيد ابن ثابت باليهودي ابن اليهودي، وإشهاره سيفه حين رغب عثمان وغلمانه إسقاط آية من القرآن والكثير!!

ثانياً: نستفيد من قول المنصور لمالك: لا يزال أهل الحرمين بخير ما كمنت بين أظهرهم، وإنك أمان لهم من عذاب الله وإن الله دفع بك عنهم وقعة عظيمة، بأن أهل الحرمين أرادوا الثورة على الخليفة وحكمه الظالم فهداهم الإمام مالك وأحمد ثورتهم ببعض الفتاوى كالقول بوجوب الطاعة لله ورسوله وأولي الأمر (وهو الحاكم) وبذلك استكان الناس وهدءوا فلم بقتالهم الخليفة، ودفع الله بتلك الفتوى مجزرة الخليفة(1).

ولذلك قال المنصور لمالك: إن أهل الحرمين أسرع الناس إلى الفتن وأضعفهم عنها قاتلهم الله أنى يؤفكون.

ثالثاً: إن الخليفة كان يرشح مالكاً ليكون هو العالم المنظور إليه في كل الأقطار الإسلامية، ثم يفرض مذهبه على الناس ويحملهم على إتباعه بوسائل الترهيب والترغيب.

من وسائل الترغيب قوله: ونعهد إلى أهل الأمصار أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها، وأن يوفدوا إليه وفودهم ويرسلوا إليه رسلهم في أيام حجهم.

ومن وسائل الترهيب قوله: أما أهل العراق (الشيعة!!) فيحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ونقطع طي ظهورهم بالسياط.

ونفهم من هذه الفقرة ماذا كان يلاقيه الشيعة المساكين من حكام الجور من اضطهاد وقتل لحملهم على ترك الأئمة من أهل البيت وأتباع مالك وأمثاله.

رابعاً: نلاحظ بأن الإمام مالكاً وجعفر المنصور كانا يحملان نفس العقائد ونفس المفاضلة بخصوص الصحابة والخلفاء الذين استولوا على الخلافة بالقوة والقهر.

قال مالك في ذلك: ثم فاتحني في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس، ثم فاتحني فيمن مضى من السلف والعلماء فوجدته أعلم الناس بالناس.

ولا شك بأن أبا جعفر المنصور بادل الإمام مالكاً نفس الشعور وأطراه بنفس الإطراء، إذ قال له مرة في لقاء قبل هذا: وأيم الله ما أجد بعد أمير المؤمنين أعلم منك ولا أفقه، (2) ويقصد بأمير المؤمنين (نفسه، طبعا).

____________

(1) ولا تناقض بين فتواه بفساد بيعة الإكراه وفتواه بوجوب طاعة السلطان وقد رووا في ذلك أحاديث كثيرة أذكر منها على سبيل المثال: «من خرج على طاعة السلطان فمات على ذلك مات ميتة جاهلية» وكقولهم: «عليك بالسمع والطاعة ولو أخذ الأمير مالك وضرب ظهرك».
(2) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج 2 ص 142. الصفحة 103

ومما سبق نفهم بأن الإمام مالكاً كان من النواصب، إذ أنه لم يكن يعترف بخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أبداً وقد أثبتنا في ما تقدم بأنهم أنكروا على أحمد بن حنبل الذي ربع الخلافة بعلي وأوجب له ما يجب للخلفاء قبله، وغني عن البيان بأن مالكاً هلك قبل مولد ابن حنبل بكثير.

أضف إلى ذلك أن مالكاً اعتمد في نقل الحديث على عبد الله بن عمر الناصبي الذي كان يحدث بأنهم لا يعدلون في زمن النبي بأبي بكر أحدا ثم عمره، ثم عثمان، ثم الناس بعد ذلك سواسية. وعبد الله بن عمر هو أشهر رجال مالك وأغلب أحاديث الموطأ تعود إليه وكذلك فقه مالك. أ.هـ.

إذن كيف بربك يكرر رئيس الجمهورية بدون دراية قولة قالها الهالك أبو جعفر المنصور الدوانيقي لمالك ابن أنس لتثبيت ملكه الكئود ويعتبرون ذلك من الدين؟ يقول عمر البشير: (نحن) نضع حدوده (الفقه) بين عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس؟؟ فهل كان الشعب السوداني قاصرا كأن يحدد حدود دينه بنفسه؟

هذه العبارة المأثورة عن أبي جعفر المنصور مثلت مفتاح الخدعة ليس في وقته فحسب..بل في وقتنا المعاصر أيضا، عبارة لا معنى لها، ففي الواقع العملي فمن هو الذي سيحدد هذه الحدود ما بين شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس؟ وهل هنالك مسطرة؟

فكرة أبي جعفر المنصور كأن يضع مالك ابن أنس علما (الموطأ) يتجنب فيه شدائد ابن عمر ويتجنب فيه رخص أبن عباس (ترخيصه زواج المتعة) ويغلق به على عقول المسلمين، رغم سذاجتها، لكنها فكرة ماكرة استبطنها ليس حبا وحرصا على الدين، بل لكي يغلق المدرسة النبوية الليبرالية “الحرة” التي كان على رأسها ابن رسول الله (ص) الإمام جعفر الصادق عليه السلام وكانت من الشهرة العلمية والعالمية تشد لها الرحال!!

أما اليوم فقد خدع أحمد علي الإمام وعلي عثمان محمد طه بهذه العبارة المأثورة اليتيمة رئيس الجمهورية لطمأنته على لأنها من مأثورات السلف الصالح ، بينما الواقع العملي يقول أن السلفيين الوهابيين (أنصار السنة بجناحيه)، والحزب الكودي، والسروريين يزرعون الأرض بكتب ابن تيمية وتلاميذه ولا يتوقفون عند ابن عمر أو ابن عباس، بل يسابقون الريح في بناء المؤسسات من أجل الجمهورية الثانية، وخططوا لتدمير الطرق الصوفية كما شرحنا سابقا، واخترقوا الجامعات ونجحوا في استقطاب إعداد هائلة من الأساتذة هم في كشف الانتظار للعمل بالسعودية، وسيطروا على الإعلام المرئي والمقروء، بل أصبح لهم إذاعات وقنوات تلفزيونية الخ

قال رئيس الجمهورية في ذات الحوار الذي أدلى به لصحيفة السوداني: فنحن حينما نتحدث عن السلفية نتحدث عن السلف الصالح في الخلافة الراشدة ولم نتحدث عن فلسفة مذهبية!!

هذه هي الخدعة الثانية التي اسقطوا فيها عمر البشير.

ففي مقالنا “السلفية (الحشوية) ما بين المصطلح والواقع” أعتمد صاحب المقالة الأصلي الدكتور خضر محمد نبها في تفسيره لمصطلح السلفية على قولة للدكتور البوطي، وهذا الأخير أعتمد على حديث موضوع تروج له السلفية الوهابية..وفي تقديرنا، لم يستعن الدكتور خضر بالدكتور البوطي واستدلال الأخير بهذا الحديث الموضوع إلا ليقيم الحجة على السلفية الوهابية أي شهد شاهد من أهلها، رغم علل الحديث!!

http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-11104.htm

أعتمد الدكتور خضر على رأي الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الذي قال: (“السلفية” ليست مذهبًا إسلاميًا محددًا، بل هي مرحلة زمنية مباركة، محصورة “بالقرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة”) المرجع: د. محمد سعيد رمضان البوطي: السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، دار الفكر، دمشق، ص9.

ويقول دكتور الخضر: وقد عبّر الدكتور البوطي عن هذه المرحلة “بالخيرية” انطلاقًا من حديث منسوب (كذبا من عند كاتب المقالة) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهم “الصحابة” ومن ثم مع من يليهم من”التابعين” وهؤلاء جميعًا هم السلف الصالح. المصدر: السيد محمد الكثيري: السلفية بين أهل السنة والإمامية، دار الغدير، لبنان، ط2، سنة 2004،ص 23.

وبالرجوع لكلام رئيس الجمهورية، نجده رجع صدى لتعريف الدكتور البوطي، قال رئيس الجمهورية عمر البشير: فنحن حينما نتحدث عن السلفية نتحدث عن السلف الصالح في الخلافة الراشدة ولم نتحدث عن فلسفة مذهبية!!

وفي هذه العبارة قصد الرئيس أن يقول أنه وحزبه ينحازون للقرون الثلاثة الأولى الخيرة، وبالتحديد ينحازون للسلف الصالح الذي تمثل في الخلافة الراشدة، ولا يتحدث عن المذهبية السلفية التي يمثلها بالتحديد لحما وشحما ابن تيمية وتلاميذه!! هكذا يخدع الرئيس نفسه أو خدعوه، فمصطلح “السلف الصالح” مصطلح وهمي غامض لا يمكن التعويل عليه عقلا وشرعا.

شوقي إبراهيم عثمان
كاتب ومحلل سياسي
[email]shawgio@hotmail.com[/email]
Exit mobile version