مصطفى أبو العزائم

اكتوبر.. لعبة البراءة والمكر


[JUSTIFY]
اكتوبر.. لعبة البراءة والمكر

بالأمس مرّت الذكرى التاسعة والأربعون لانطلاقة الشرارة الأولى لثورة اكتوبر 1964م، والتي كانت أول هبة شعبية حقيقية ضد نظام حكم عسكري في المنطقتين العربية والأفريقية، على الرغم من أن نظام الحكم العسكري كان يعبّر عن إرادة كل الجيش السوداني، على اعتبار أن رئاسة المجلس العسكري الأعلى الذي كان يمثل السلطة السيادية العليا في البلاد، كانت بيد الفريق إبراهيم عبود- رحمه الله- القائد العام للجيش السوداني، وقد آلت إليه تلك السلطة بـ(الاتفاق) وبعد عملية (تسليم وتسلم) ما زالت تفاصيلها غامضة تحتاج إلى كثير من الشرح والوضيح، وهي العملية التي نقلت السلطة- سلمياً- من يد رئيس الوزراء الراحل الاميرالاي عبد الله بك خليل- رحمه الله- سكرتير عام حزب الأمة، إلى يد الفريق إبراهيم عبود الذي استشار قادة الأسلحة الذين لم يروا بأساً في إستلام السلطة بعد أن أصبح النظام الدستوري مهدداً بالانهيار، ورأوا أن ذلك قد يجنب البلاد ما يترتب على إستيلاء بعض صغار الضباط على السلطة حال التراجع السياسي للأداء الحكومي.

ما لم يجرؤ الكثيرون على قوله، وما لم يقم المؤرخون السودانيون بتسجيله، إنحيازاً لكبار قادة الجيش السوداني، وضباطه العظام ممثلين في المرحوم الفريق إبراهيم عبود وصحبه الكرام، هو (إحترافية) حكام السودان العسكرية في الفترة من 17 نوفمبر 1958م وحتى لحظة إنهيار النظام قبل نهاية اكتوبر من العام 1964م، وتلك الإحترافية العسكرية، جاءت على حساب الوعي السياسي المطلوب في ذلك الوقت، ولم يكن قد تم الزج بالجيش في دنيا السياسة بعد، لذلك لم يدرك أولئك الضباط الأفاضل من قيادات الجيش السوداني- وقتها- لم يدركوا أصول اللعبة السياسية، فضّيقوا على الحريات، وحلوا الأحزاب السياسية، وأستهدفوا الأحزاب العقائدية خاصة الحزب الشيوعي السوداني وجماعة الإخوان المسلمين، قبل أن تطّور أدائها السياسي ويشكل عدد كبير من قادتها وأعضائها جبهة الميثاق الاسلامي.

وسيطرت العقلية (الأبوية) على كل نتائج تفكير القيادة الرسمية التي لم تر أمراً صالحاً إلا ما تراه، وجعلت من نفسها وصية على الآخرين، لقد كان حكام تلك الفترة- غفر الله لهم- رموزاً عسكرية أكثر من أنهم حكام حقيقيون ، وكانوا آباء (طيبين) إتصفوا بالأمانة والنزاهة والشرف والحزم، لكنهم وجدوا أنفسهم يواجهون جيلاً جديداً، تشرّب من مفاهيم وأفكار أخرى غير التي تشربوا منها أو آمنوا بها، ووجدوا أنهم داخل (معمعة) سياسية لا يتم التعامل فيها بغير منطق السياسة والكر والفر، إذ وجدوا أنفسهم في مواجهة جيل أبنائهم المتطلع للسلطة، والذي يؤمن بأفكار ومفاهيم وأساليب تختلف عما يؤمن به الآباء، وكان للجيل السياسي الجديد الممثل في السادة الدكتور حسن الترابي والصادق المهدي والمرحوم عبد الخالق محجوب، كان لذلك الجيل تأثير كبير على النُخب وعلى الشارع السوداني، الذي إئتمر بأمرهم وتجاوبت مع دعوتهم للاضراب السياسي والخروج إلى الشارع الإتحادات والنقابات المهنية، وإنضم القضاة إلى كل ذلك الحراك فكان إنضمامهم للشارع هو تحرير شهادة الوفاة للنظام.. لقد سقط نظام الفريق إبراهيم عبود- رحمه الله- في إمتحان الصمود أمام سطوة الدهاء والمكر والعقل السياسي الذي يحسب لكل خطوة حسابها، مضافاً إلى ذلك قوة الشارع السوداني الذي هزه إغتيال الشباب وموتهم بالرصاص بدءاً من مقتل الشهيد أحمد القرشي طه في جامعة الخرطوم مروراً بمقتل الشهيد بابكر عبد الحفيظ من معهد المعلمين العالي، ثم توالى ركب الشهداء حتى فقد النظام شرعيته أمام الشعب.

من المآخذ التي تؤخذ على نظام الفريق عبود والتي إستدل بها خصومه على قصور الوعي السياسي للنظام، هو تنازله عن منطقة حلفا (القديمة) وما حولها لمصر بمقابل لا يكاد يساوي شيئاً أمام غرق المدينة وإقتلاع أهلها من منطقتهم وترحيلهم إلى (عالم) آخر لا علاقة لهم به من قبل، مقابل ضعيف لم يكف حتى بناء منازل الأهالي في حلفا الجديدة، ولم يضمن للسودان (حصة) من كهرباء السد العالي.

ثورة أكتورب كانت هزيمة للبراءة السياسية ولا نريد أن نسميها بـ(السذاجة) التي اتصف بها نظام الحكم، أمام الفكر الجديد الذي يتضمن قيماً سياسية ويسعى لتحقيق أهداف مرسومة، ولا ينتظر (فعل الصدفة) ولا نتيجة (الصدفة). ومهما قال البعض فإن اكتوبر 1964م كانت ثورة حقيقية وعظيمة تستحق أن نحتفل بها كل عام..
[/JUSTIFY]

بعد ومسافة – آخر لحظة
[EMAIL]annashir@akhirlahza.sd[/EMAIL]