الصادق الرزيقي

مَنْ الرَّابح ومَنْ الخاسر؟!


> يسود اعتقاد لدى كثير من الخلق، بأن الانتخابات المتبقي لها أكثر من شهر تقريباً، باردة كقطعة ثلج، لا سخونة فيها ولا تنافس واصطرع سياسي حقيقي، على مستوياتها كلها وخاصة في الدوائر الجغرافية، ونكاد لا نلمس أو نجد العمل السياسي الانتخابي الذي يحيل الساحة إلى نقاشات وجدال محموم وسجالات لا حد لها وليالٍ سياسية ولقاءات تعبوية تضج بها الميادين والأندية والساحات وينفعل بها الشارع، وتتلقف ما فيها المجالس، وكلها في نهاية الأمر تؤشر إلى مدى اتساع الوعي السياسي وتناميه البائن.
> فالانتخابات موسم لتدريب وإعداد القيادات والكوادر الحزبية، ومعلوم أن أي حزب يتخلف عن الانتخابات لفترات طويلة يصاب بشلل في التفكير وضعف في الممارسة السياسية وهزال في الجسد الحزبي، وتتأثر عنده وظائف الأعضاء ويتلف جهازه العصبي.. وقد خسرت الأحزاب السياسية التي قاطعت الانتخابات الكثير، وستربح الأحزاب التي قررت خوضها الكثير أيضاً.
> أما برودة الطقس الانتخابي التي نلاحظها جميعاً، فإنها ترجع في الأساس لسببين رئيسين، أولهما وأهمهما هو غياب الأحزاب المعارضة عن المشهد الانتخابي، فمهما كان وزنها فإن دعايتها الانتخابية ومشاركتها كانت ستوفر مناخاً ساخناً تتصارع فيه الأفكار والبرامج الانتخابية والآراء السياسية بما ينعكس على سير الانتخابات وتوقعاتها، والسبب الثاني ــ وهو مهم أيضاً ــ أن قواعد المؤتمر الوطني في كل السودان وهو الحزب الأبرز في هذه العملية السياسية الجارية في البلاد، تشعر بأنه لا يوجد منافس حقيقي لها، فركنت إلى التواكل وشعرت بأن النتيجة قد تكون شبه محسومة نظراً لاستعداد الحزب من فترة مبكرة وإجرائه عملية إعادة البناء وتواصله مع قواعده ووضوح برنامجه ووجوده في السلطة.
> وهذا الإحساس الطاغي لدى قواعد المؤتمر الوطني، إحساس مدمر وليس إيجابياً على الإطلاق، وستلجأ هذه القواعد الشعبية المطمئنة إلى التراخي وتتكئ على ثقة زائدة بالنفس وتنشغل عن المشاركة الكثيفة والحماس الدافق في فترة الاقتراع، مما يؤثر على نسبة المشاركة التي يخشى أن تكون أقل من انتخابات 2010م.
> ومن طبيعة الأشياء وناموس الحياة أن تكون سنة التدافع قائمة، يشعر المخلوق بالخطر في حالة وجود عدو ومنافس له، ومنطق السياسة مستنبط من هذا، فالولايات المتحدة الأمريكية وتوابعها من الدول الغربية تؤمن بوجود عدو بصورة دائمة حتى ولو كان عدواً متخيلاً، ولو لم يكن موجوداً لاخترعوه كما يقول بعض المخططين الإستراتيجيين في الغرب، فالإحساس بعدم وجود منافس وضريب ونظير وعدو سياسي في الساحة يدفع قاعدة المؤتمر الوطني إلى إلقاء رؤوسهم على الوسادات الوثيرة والخالية، والغرق في سبات عميق في انتظار النتيجة التي يتصورونها.
> وربما يكون هناك سبب ثالث متعلق بخبو وأفول النجوم اللوامع في سماء السياسة الراهنة، وقد خلت الدوائر الجغرافية القومية والقوائم الحزبية والمرأة من شخصيات سياسية من الوزن الثقيل إلا القليل في دوائر محددة، وأثر هذا في الانتخابات كبير، فلم تعد المدن والأرياف تشهد الحملات الانتخابية العاتية والرموز الوطنية والسياسية التي تجوب وتطوف الأصقاع القريبة والبعيدة القاصي منها والداني، تتواصل مع الجماهير وتعقد الندوات فتتلاقح الأفكار وتتجادل ويحمى وطيس الاحتراب السياسي، وما صار عندنا الآن مجرد حملات صغيرة لا تدوم في يوم أو يومين تدشن فيها حملة للمرشح الفلاني ثم يغيب وتغيب لجانه الانتخابية وتختفي.. فوجود المرشحين في دوائرهم الجغرافية وقيادتهم مع رموز أحزابهم الحملات الانتخابية والدعائية ومخاطبة الجمهور والتجمعات الشعبية عبر الندوات واللقاءات المفتوحة هو ثمرة العمل السياسي وذروة سنام الانتخابات.
> في الديمقراطية الثالثة في انتخابات عام 1986م ــ وبالطبع تلك لها ظروفها ومناخاتها وخصائصها الموضوعية ــ كان التنافس السياسي على أشده، وشهدت الدوائر الجغرافية تدافعاً وتنافساً سياسياً قلَّ أن يتكرر مرة أخرى في تاريخ البلاد، وكانت أكبر مدرسة لتعلم السياسة تلك الفترة، وتعلَّمت أجيال هي الآن في عين العاصفة السياسية وفي لجة بحرها المتلاطم من تلك الفترة، وكان الكثير منهم صغاراً يتفرجون.
من مصلحة البلاد وتطوراتها السياسية الجارية ومن مصلحة الاستقرار والأمن والسلام، أن يلتزم الجميع منهج التبادل السلمي للسلطة والتواضع على طريقة وحيدة لكيفية حكم البلاد، فللديمقراطية ثمن باهظ لا بد من دفعه وكلفة عالية يتوجب سدادها، ونريد لبلدنا أن يكون واحة للتنافس الفكري والسياسي، فالبقاء للأقوى والأصلح في برامجه وتصوراته وليس لقوته العسكرية أو المادية.