تحقيقات وتقارير

مصطفى عثمان .. “الحرب على حافة الكلمات”


ذاكرة السودانيين تحفظ تلك المبارزات بين السياسيين كان سلاحها الفكر والأدب
بدأ كثير من السودانيين يحنون إلى عهد رواد الحركة الوطنية من لدن الأزهري ومبارك زروق ومحمد أحمد المحجوب الذين كانت خطاباتهم في البرلمان والليالي السياسية وخطابات الدولة الرسمية عبارة عن نثر شعري جميل منظوم بأجمل الكلمات والعبارات ، ويُحكى أن أكثر القضايا أمام المحاكم حضوراً ومشاهدة من قبل المواطنين تلك التي كان يترافع فيها مبارك زروق ومحمد أحمد المحجوب ،ويقال أنه ما اختصم اثنان فدفع أحدهما بمبارك زروق إلا وبحث الآخر عن المحجوب ليصبح وكيلاً عنه أيام كانت المقاضاة عن طريق الخطابة المباشرة قبل أن تتحول إلى نظام المذكرات. وفيما يبدو أن كلا الرجلين ـ زروق والمحجوب اكتسبا بلاغتهما من خلال ممارستهما للعمل السياسي فالأول كان قيادياً بالوطني الاتحادي بينما كان الأخير قطباً من أقطاب حزب الأمة واحد زعمائه.
تدهور الخطاب
لكن يبدو أن الخطاب السياسي بدأ يتدهور في عهد الأنظمة الشمولية والعسكرية التي تعاقبت على حكم البلاد ابتدأ من حكم عبود ومايو وصولاً إلى الإنقاذ ولم يكن عهد الديمقراطية الثالثة بالأفضل حيث إن أشهر عبارة ظل يرددها السياسيون تلك التي اطلقها الراحل الشريف زين العابدين الهندي داخل الجمعية التأسيسية خلال نعيه ونقده للديمقراطية ( ديمقراطيتكم دي لو جراها كليب ما بقول ليهو جر) بيد أنه وحسب مراقبين فإن الخطاب الأسوأ في التاريخ السياسي ذلك الذي اعتاد عليه قيادات العمل السياسي في البلاد في عهد الإنقاذ من قبل الحكومة والمعارضة حيث شهدت الساحة السياسية انحطاطاً غريباً في مستوى الخطاب السياسي وأدخلت كلمات جديدة إلى قاموس السياسة السودانية مثل كلمة (لحس الكوع) و(بلوها واشربو مويتها) و(جحر الضب) وغيرها من الكلمات التي اعتاد المواطن على سماعها من السياسيين في البلاد سواء أن كانوا حاكمينأ معارضين .
بين النفي والإثبات
ومع بدأية الحملة الانتخابية بدأت تعود الى الساحة السياسية مثل هذه الخطابات من قبل قيادات عليا في الحزب الحاكم سيقابلها بالطبع المعارضون بالرد العنيف. ففي الوقت الذي بدأ فيه المؤتمر الوطني اكثر مرونة مع معارضيه بعد ان اعلن قبوله بما جاء في إعلان برلين الذي وقعته المعارضة السودانية بشقيها المدني والعسكري في برلين الأسبوع الماضي، بدأـ بعض قياداته ترد على معارضين بالداخل يقودون حملة (ارحل) الداعية لمقاطعة الانتخابات بعبارات عنيفة أشهرها ما تفوه بها مسؤول الإعلام بالحزب الحاكم ياسر يوسف الذي وصف مقاطعي الانتخابات بـ(أراذل القوم) ، ورغم نفي يوسف القاطع لهذه العبارة إلا أن المعارضين مصممين على أن الرجل أطلق العبارة التي نقلها الموقع الإلكتروني لحزب المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم . ولازال الجدل مستمراً حول هذه الواقعة التي بقيت رهينة النفي من الجانب الحكومي والإثبات من المعارضة ويبدو أن الأخيرة أصبحت تتصيد عبارات خصومها وتروج لها من أجل إنجاح حملتها الشهيرة (ارحل).
من حمامة إلى صقر
وفي خطوة مفاجئة تحول الأمين السياسي للمؤتمر الوطني مصطفى عثمان إسماعيل من خانة الحمائم إلى خانة الصقور داخل الحزب الحاكم، فالرجل كان الأقرب إلى المعارضين بمرونته ومده لحبل الود بينه وبين معارضي حزبه وخصومهم من المعارضة المدنية عندما كان يتولى داخل الوطني مسؤول العلاقات الخارجية حيث نجح في استقطاب كثير من الخصوم وتحويلهم إلى شركاء في الحكومة لاسيما وأنه يعد الرجل الأول الذي أنهى أمد الحرب في شرق البلاد ووقع اتفاقية مع جبهة الشرق ثم ظل حلقة التواصل الخفية بين حزبه والاتحادي الديمقراطي بزعامة الميرغني وكذلك تواصله مع حزب الأمة القومي وعلاقته المتينة بإمام الأنصار الصادق المهدي الشيء الذي أهله ليصبح أحد حمائم المؤتمر الوطني ، بيد أن عدداً من المراقبين لاحظوا تحولاً كبيراً في لغة الأخير وحدتها تجاه خصومه وتحديه لهم (بكسر يدهم إذا ما حاولوا مدها للنيل من حزبه) وفي لقائه الأخير، قال مصطفى إن الذين يقاطعون الانتخابات لايستحقون شرف الانتماء للوطن . وبدأ عثمان أكثر عنفاً تجاه الصحفيين عندما وصف بعضهم بالغباء خلال مدافعته عن حديث مسؤول الإعلام بحزبه ، بيد أن بعض المراقبين وصفوا التحول في خطاب مصطفى بأنه نابع من حاجة حزب المؤتمر الوطني إلى صقر كاسر يخلف القيادي في الحزب الدكتور نافع علي نافع ويلعب ذات الأدوار التي كان يؤديها قبل أن يغادر دفة نائب رئيس الحزب للشؤون التنظيمية والسياسية .
اللغة المستخدمة من شأنها أن تشكل عائقاً نفسياً أمام أية عملية حوار سياسي تلوح في الأفق
ويرى مراقبون أن الكثير من أجواء الحوار السياسي تسببت كلمات في نسفها ويأخذ مراقبون علي البعض من السياسيين اللجوء إلى مثل هذه اللغة في مخاطبة الآخر.
وتحفظ الذاكرة السودانية في سنين مضت مناكفات بين سياسيين كبار تدثرت بدثار الأدب واللغة الرفيعة كان للسياسة في السودان ( في فترة مابعد الاستقلال في أواخر الخمسينات وبعد ثورة أكتوبر 1964) كان لها طعم خاص و أدب خاص كما يقول بذلك الأستاذ خالد البدوي بابكر والذي يضيف أن المهاترات السياسية كانت أدب قائم بذاته بين دهاقنة السياسة في ذلك الزمان .. وعلى رأسهم الأستاذ القانوني الضليع والشاعرالأديب الفذ محمد أحمد محجوب .. والزعيم إسماعيل الازهري.
ولكن كان هناك فصل كامل بين العلاقات الاجتماعية لهؤلاء الدهاقنة وما يدور بينهم في البرلمان من مهاترات (كانت هي في حد ذاتها) أدب وفن ويقول بابكر “وإن أنسى لا أنسى وقد كنت طفلاً حديث الناس عن نزاع نشب بين الزعيم الأزهري ورئيس وزرائه المحجوب (في فترة ائتلاف بين الحزبين الكبيرين) وكان سبب النزاع في من يمثّل السودان في مؤتمر باندونق (المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز) (وجاء كاريكاتير عز الدين يمثل الزعيم يركب حمارًا والمحجوب يجره من ذيله.
وكانت قصيدة المحجوب الرمزية الشهيرة .. والتي مطلعها ..
هذا زمنك يامهازل فامرحي *** قد عُدّ كلب الصيد في الفرسان
وذهب أبو الزهور للمؤتمر مع ناصر وجومو كنياتا وهيلا سلاسي .. وعاد إلى الخرطوم ليكون أول مستقبليه عناقاً هو المحجوب (نفس الرجل الذي مثّله بكلب الصيد)
وكذلك لا تنسى الذاكرة السودانية تلك المبارزات الأدبية والفكرية العظيمة بين الأديب الفذ صلاح أحمد إبراهيم وعمر المكي والتي كان مسرحها صفحات الصحف.

التيار